فـيقـول الله تعالى:{إن المتـقـين في جـنات ونعـيم} سـورة الطـور 17، المـتـقـون هـم الـذين يخـشـون ربهـم في السـر والعـلانية ، ويتجـنـبـون المعاصي ما ظهـر منها وما بـطـن عـمـلا بمـقـتضى أوامـر الله تعالى ، وتـركا لمـعـاصيه وآثامه، وابـتعـادا عـن حـرماته ، وليـس التـقـوى بارتـكاب الـفـواحـش ما ظهـر منها وما بطـن ، ولا تـركا للـعـمل بتضـييـع الفـرائض.
والتقـوى تـتـمـثـل في أمـرين في اجـتناب ما نهـى الله عـنه ، وهـو الصـبر عـن المعـصية ، وإتيـان ما أمـر الله به ، وهـو الصـبر عـلى الطـاعـة ، ومـركـز التـقـوى هـو القـلب والتقـوى انـفـعـال في القـلـب ينعـكس ظـاهـرا عـلى عـمـل الجـوارح، وإذا تمكـنـت التقـوى في القـلـب صـدق اللسان فـيما يـقـول ، وصلحـت الجـوارح فـيما تعـمـل ، وبـذلك يسـتقـيم المـرء في ســلـوكـه مــع نفـسه ، ومـع عـائـلته ومـع جـيرانه ، ومـع قـومه ومـع ربه أولا وأخـيرا.
مـن المعـلـوم أن الله تعالى كـثيرا ما يـذكـر في كـتابه أن المتــقـين في جـنات مـتـعـددة، ويــذكـر بان الجـنـة أعــدت للمـتقـين كـما قال الله تعالى : { وسـارعـوا إلى مـغـفـرة مـن ربـكـم وجـنـة عـرضها السـمـوات والأرض أعـدت للـمـتـقـين } آل عـمـران 133، وبعـد أن ذكـر الله عـدة صـفات للمـتقـين عـقـب عـليها بـقـوله تعالى : { أولـئـك الـذين صـدقـوا وأولـئـك هـم المتـقـون } سـورة البـقـرة 177. لـقـد جـعـل الله تعالى الجـنـة في مقـابـل الجحـيـم الـذي ذكـره في حـق الكـفـرة ، ووصـفها بتـلك الـصـفاة لتشـويـق عـباده للمسـارعـة للـعـمـل الصالح ، لأن سـلعـة الله غـالية ، وكـيف لا تـكـون غـالية ، وفـيها ما أعـده الله لـعـباده المـؤمـنين ، كـما ورد في الحـديـث القـدسي : (أعـددت لعـبادي الصالحين ما لا عـين رأت ولا أذن سـمعـت ولا خـطـر عـلى قـلب بـشر).
ولـماذا سـمـاها الله تعالى كـذلك ، ذلك لأن أحـلى وأعـلى واغـلى ما يمـكـن أن يطـمـع فـيه الإنسان في هـذه الحـياة الـدنيا حـديقـة أو بـسـتـان ، فـيها أشـجـار وأنـهار وثـمـار وأزهـار و أن الناس إذا فاتـتهـم هـذه الأوصاف في بـساتينهـم أو حـدائقـهـم اتخـذوا الأشـجـار والأزهـار المصـنعـة في مـنازلهـم ، وقـد يـعـمـدون إلى تصـويـرها عـلى جـدران بـيـوتهـم ، وهـذا مما يـبين لنا قـيمة الجـنـة عـنـد البـشـر، وهـم في الـدنيا الفانـية ، فـذلك يـزيـدهـم شـوقا وحـرصا إلى الجـنـة.
النعـيم هـو التنـعـم ويـدخـل في النـعـيم كل ما لـذ وطـاب ، كـما قال تعالى:{ وفـيها ما تشـتهـيه الأنفـس وتـلـذ الأعـين وأنــتـم فـيها خـالـدون } سـورة الـزخـرف 72، فـيها ما تقــر العـين بمنـظـره وما تـلـذ النفـس بـطـعـمه ورائحــته ، وغـير ذلك مما يمـكـن أن يـدخـل في مفـهـوم ما تشتهـيه النفـس وتـلــذ الأعـين.
قال تعالى:{ فـاكهـين بما آتاهـم ربهـم ووقاهـم ربهـم عـذاب الجـحـيــم } سـورة الطـور 18، أخـذت كلـمة : { فاكـهـين } مـن الفاكهـة ، والفاكهـة هـي الثـمار اللـذيـذة الطـيبة وقـد ذكـرت الفاكهـة والفـواكـه مـرات عــديـدة في القـرآن الكـريـم ، منهـا قـوله تعالى:{ فأنشـأنا لكـم به جـنات مـن نخـيـل وأعـنـاب لـكـم فـيها فـواكـه كـثيرة ومنهـا تأكـلـون } سـورة المـؤمنـون 19.
ومـن عـادة الإنسان أنه يـأكـل الفاكهـة تـلـذذا ، وبخـاصة إذا جـمعـت أوصـافا عـديـدة : ألـوانـا جـمـيـلـة ، فـإذا وجـد الطـعـم اللـذيـذ ، والـرائحـة الـذكـية ، فـقـد حـصـل الحـبـور والسـرور ، والإنـسان يـتـلــذذ بهـذه الفـوا كـة خـصوصا إذا جـمـعـت أنـواعا متعـدة وألـوانا مخـتلـفة ، فـشـم الـريح ويتمـتـع بالمنـظـر، ويـتـذوق الحـلاوة، ومـن التـفكـه الفاكهـة في الحـديث كـما قال رسـول الله صـلى الله عــيه وسـلم : ( إذا مللـتـم الحـديث فأحـمـضـوا).
قال ابن السـكـيت : يـقال حـمضـت الإبـل فهـي حامضـة إذا كانـت تـرعى الحـلـة هـو مـن نـبت ما كان حـلـوا ، ثـم صـارت إلى الحـمض فـترعـاه الإبـل ، وهـو ما كان مـن النبت مالحـا أو حـامضا ، أفاضـوا فـيما يـؤنسـهـم مـن الحـديث والـكلام، كما يقال فـكـه ومتـفـكـه ، وكان ابن عـباس يـقـول إذا أفاض مـن عـنـده الحـديث بـعـد القـرآن والتفـسـير : أحـمضـوا وذلك لما يخـاف عـليهـم الملل مـن مـواصـلة الحـديث في التفـسير فـيحـب أن يـريحـهـم فـيأمـرهـم بالإحـماض ، أي بالأخـذ في ملـح الـكلام والحـكايات (ابن منظـور لسان العـرب جـ 7 ص 140).
وكان (صـلى الله عـليه وسـلـم) أحـيانا يـتـنـدر ببـعـض الفـكاهـات ، لأنه بـشـر مـثلنا بـكامـل إحساسنا يـعـلم أن النفـس تـكل وتـمـل ، وإذا مـلت فـغـذاؤها شـيء مـن الفـكاهـة والملح الهادفـة لتهـذيب الأخـلاق.
ومما روي مـن نـوادره (صلى الله عـليه وسـلم) عـن صهيب بن سـنان ( المعـروف بصـهيب الـرومي) ،قال : قـدمت مهـاجـرا مـن مكـة المـكـرمة عـلى النبي (صلى الله عـليه وسـلم)، وبـين يـديه خـبز وتمـر، فـقال النبي (صلى الله عـليه وسـلم):(ادن فـكل) ، فأخـذت آكل مـن التمـر ، فـقال النبي (صـلى الله عـليه وسـلم):(تأكـل تمـرا وبك رمـد ؟ ) قال فـقـلت : إني أمـضـغ مـن ناحـية أخـرى فـتـبسـم رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم)،أخـرجـه ابن ماجـه في السنن: كتاب الطـب.
وعـن ابن كـثير قال : أتـت عـجـوز رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) فـقالـت : يا رسـول الله، ادع الله لي أن يـدخـلني الجـنـة، فـقال : ( يا أم فـلان ، إن الجـنـة لا تـدخـلها عـجـوز ) ، قال : فـولت تبكي ، قال : ( أخـبروها أنها لا تـدخـلها وهي عـجـوز، إن الله تعالى يـقـول : { إنا أنشـأناهـن إنشـاء فـجـعـلناهـن أبـكارا عـربا أتـرابا } ابن كـثير التفـسير جـ 6 ص 524.
وكان الصحابة رضي الله عـنهـم كـذلك يـفـعـلـون ، وكان هـذا دأب الـسادة الأئمة في مـجالسـهـم ، والعـلمـاء الأعـلام في دروسـهـم ، والأسـاتـذة بين طـلبتهـم ، فإذا أروا المـلل بـدأ يســتـولي عـلى طـلبتهـم ، أو النـعـاس يخـيـم عـليهـم ويـغـشـيهـم ، يأتـون بنـادرة لطـيفـة يجـددون بهـا النـشاط وهـذا أمـر مـعـقـول.
فالمتـقـون في الجـنـة يتمـتعـون بـكل مـا آتاهـم ربهـم مـن النعـيـم ، والخـيرات التي لا يأتي عـليها وصـف ، ولـم يكـتـف الله تعالى بان يبـين لنا أن المـتقـين في جـنـات ونعـيـم حـتى بـين لنا أنهـم مـسـرورون ومحـبـورون ، وعـلينا أن نـدرك الحـكـمة الـبالغـة مـن قـرن الله تعالى قـوله : { فـاكهـين بما آتـاهـم } يـقـوله : { إن المتـقـين في جـنات ونعـيـم } ، وذلك حـتى لا يظـن أحـد أن أهـل الجـنـة يصـيبهـم قـلـق أو حـيرة ، أو ينـتابهـم اضطـراب نفـسي أو يتـملـكهـم خـوف مـن شيء ينـغـص عـليهـم متعـتهـم ، لأن المـرء في الـدنيا قـد يكــون في قـصـر مـنـيـف يعـيش في أحـضان النعـيم وأفـنان المـلـذات ولـكـن قـلـبه في أتـون الجحـيـم يتـألـم ، فـتـراه يسـعـى جـاهـدا ليخـرج مـن ذلك القـصر ويـترك ذلك النعـيـم ، وقـد يـكـون في نـعـيم ولـكـن ينـغـصه عـليه خـوف العـواقـب، أو تـوقـع زواله بسـبب مـن الأسـباب، والإنـسان يخـاف أما أن تـزول عـنه النعـمـة التي هـو فـيها ، أو أن يـتـركـها بمـوته.
فـتـوقـع المصائـب والنـكـبات تعـكـر صـفـو التـلـذذ والمتعـة ، حـتى إن المـرء لـيقـول : أنا لم أتـلـذذ بشيء مـطـلـقا لا بهـذه الأنـغـام الشـجـية ولا بهـذه المناظـر الجـمـيلة ، ولا بهـذه الأطـعـمة اللـذيـذة ، لأنـني أتـوقـع حـدوث كـذا وكـذا ، فـلـو أن أحـدا اسـتـقـامـت له الـدنيا كلها فـكان لا يحـس ألمـا في جـسمـه وأهـله ، ولا يشـكـو نقـصا مـن أي شـيء مـن النعـم ، ولـكـنـه إذا تـذكـر المـوت ــ وهـو لا محـالة مـلاقـيه ــ فإنـه يـفـسـد عـليه عـيشـه ، وينـغـص عـلـيه لـذته ، وهـذا آخـر شيء يـعـكـر عـلـيه صـفـوه ، ولـكـنه في الحـقـيقـة هـو أول شيء لأنـه يـتـوقـع المـوت في كـل وقـت وحـين، إمـا في نـفـسه أو في أسـرته أو في أقاربه ، ولـو لـم يكـن في الـدنيا شيء مما يـعـكـر صـفـوها إلا تـوقـع المـوت لـكـفى به منـغـصا.
مما يـرويه الـرواة عـن يـزيـد بن عـبـد المـلك بن مـروان ــ ومـا أكـثر ما روي عـن أولـئـك المـلـوك والخـلـفـاء الأمـويـين والعـباسـيين، مـن الـروايات فـيها الصحـيح وغــير الصحـيح ولكـن العـبرة بالقـصة ولـو كانت مـوضـوعـة ــ قالـوا: أراد يـزيـد بن عـبـد الملك أن يتخـذ يـوما للـسـرور والمتعـة ، مـع خـاصـته وبـطـانته وجـواريه، وأمـر حجـابـه ألا يـدخـلـوا عـليه أحـدا ولـو كان صاحـب الـبـريـد ، ولـمـا كان في قـمـة لهـوه غـصـت إحـدى جـواريـه وهـي حـبـابـة بحـبـة رمـان ــ وكانـت مـن أحـظ جـواريه عـنـده ــ فـمـاتـت لحـينها فانقـلب الفـرح والـسـرور إلى حـزن ، والحـفـل إلى مـأتـم في الحـين ، فـجـزع عـليها جـزعـا مـفـرطـا حـتى مـات مـن الجـزع.

ناصر محمد الزيدي