العيد.. من دفتر طفولة عمانية

لكل بيئة أزمنتها التي سجلت فيها ذاكراتها المستقلة أنماط توافقها مع المكان والزمان الذين ارتبطت بهما، وهي تفعل ذلك بموجب نسق تراكمي تلقيني يمتد حتى يتفاعل معه اللاوعي الجمعي، في صيرورة تحيل إلى تكوين مناخ حياتي عامّ وقارّ في المكان الذي تنتمي إليه.
المناسبات واحدة من الفعاليات المجتمعية التي ترافقها طقوسها الخاصة، سواء كانت فردية ذات تجانس جمعي، أو عامة ذات فرادة في التعاطي مع الحدث، ولكنها في النسيج العام هي متسقة وذات لحمة واحدة، وعلى هذا يمكن فهم العديد من المناسبات المجتمعية في عمان قديما، مثل : الأعراس، الختان، حول حول، الترحيب بعودة غائب منذ زمن بعيد، والعيدين (الفطر والأضحى).
غير أننا نود التفصيل أكثر، أي صلة الشرائح المجتمعية بتلك المناسبات، ومدى ارتباطها بها، سواء كانت واعية بما هي متفاعلة معه أو لا، وسواء كانت منسجمة مع تفاصيله أو لا، ومثال ذلك شريحة الأطفال، وبخاصة في تعاملها مع العيدين، سواء كان العيد الصغير (الفطر)، أو العيد الكبير (الأضحى)، باعتبار أن المرحلة العمرية تجد ذاتها جزءا من المشهد، وفقا لتفاصيل يدركها الآباء او الأمهات أو وكلاء الأطفال (الأيتام)، لتجذير حالة الفرح في هذه الشريحة العمرية، التي تقل أعمارهم عن سبعة.

طفولة قديمة
الطفولة العمانية القديمة ليست واحدة، بل عدة طفولات، تبعا لطبيعة ظرف كل مرحلة على حدة، وتبعا لطبيعة نوع الطفولة ذاتها، كأن نقول بأن ثمة طفولة فقيرة، وأخرى غنية، تبعا للمستوى المادي والتراتبية الاجتماعية في المكان، ويمكن التعامل مع طفولة ناقصة، مثل طفولة الأيتام، ومعها جميعا يمكن أن نضيف الطفولة غير المستقرة، وهي المبنية على الترحالات المستمرة والمتكررة بحسب ظروف كل مرحلة، وهذه الطفولات تنعكس صلاتها بالمناسبات التي تمر بها وتعيشها، مع الوضع في عين الاعتبار كيفية التفاعل بين الشريحة والمناسبة الاجتماعية.
هذه الطفولات - للأسف الشديد - ليست محل بحث في الأطر الاجتماعية والنفسية والتكوينية، لما كان لها من انعكاس مستقبلي قادم في حياتها، ونعني به الاستقلالية والارتباط الزوجي والتفاعل الحياتي، وكيف تشكلت دورة حياة الفرد الواحد ضمن بنية جمعية، وانعكاس ذلك التشكل على مرحلة المسؤولية، بعد سعة زمنية سمحت بتراكم تجاربي حياتي متحقق بالضرورة.
نظن أن الذهاب لتقصي تلك الطفولات مهم لمعرفة المستوى الـ مابعدي (الحالي) الذي آل إليه شكل الطفولة ووعيها الجديد، أو لنقل نمطها المتشكل من بنية حياتية جديدة مختلفة ومتمايزة تماما عما سبقها.

العيد.. ألوان
ما ينبغي التوقف عنده فعليا، هو العيدان - على الرغم من اتساع رقعة البساطة والحاجة في الطفولة القديمة - لأن ثمة احتفاء بالألوان، وكأنها المعادل الموضوعي للرتابة، واستلال للفرح من ضنك اليوميات، وانسياق عفوي تجاه البناء اللوني في الذاكرة اللاواعية عند الطفل، ذكرا كان أو أنثى، بما يتيح مساحة من إعادة التوازن بين المراحل التي سيمر بها الطفل ذاته، ولذلك كانت هناك عدة مسارات تم من خلالها التعامل مع الألوان بحرص، حتى في أقصى حالات الحاجة.
غالبا ما يتم التعامل مع اللون من مصادر مختلفة، وخاصة على مستوى اللباس، فسلوك التخزين لحين حضور مناسبة ما، كان حاضرا بقوة، ويمكن تعديدها بناء على التالي :
(طواقي /كميم) غطاء الرأس للأطفال، يتم جلبها على شكل هدايا من رحلات الحج، وكانت ذات نمط خاص، فهي مزينة بمرايا صغيرة متناسقة مع الشكل الدائري، ومضاف إليها بعض الزركشة، ولها ألوان مختلفة، ويغلب على أكثرها اللون الأخضر.
(دشاديش)، في الغالب - ومن أجل تحويل اللون الباهت، وإعطائه لونا جديدا- يتم وضع الثوب في محلول (الورس)، الذي يجعل اللون يميل إلى البرتقالي، لكن هناك ملابس كان يتم خياطتها بـ (الزري)، وهي خيوط فضية، والأثواب ذات ألوان براقة. (الوزار/الإزار)، وهي قطعة قماش يتم لفها حول الخصر، لتعويد الطفل على لباسه.
(الحزاق)، وهو قطعة من الفضة على شكل مستطيل، يتم وضعها فوق الدشداشة على الخصر، ولها حزام جلدي يشبه حزام الخنجر وليس بمواصفاته الدقيقة.
بالنسبة للإناث هناك ألبسة كلها تبرق بالألوان، سواء كانت قديمة أو جديدة أو مستخرجة من (المناديس)، ومنها : (الكمة) التي يتم وضعها على الرأس بانثيال يجاور اليدين إلى الكفين؛ والثوب (دشداشة أيضا) يتم تزيينها بـ (السنياف) ذي اللون الأزرق أو الأحمر من جهة أطراف الأكمام وطرف الثوب بشكل دائري؛ و(الصروال/السروال) الذي يخلو من البهرجة والتزيين غالبا.
السمات اللونية في الطفولة العمانية القديمة تختلف بحسب المكان والجغرافيا بطبيعة الحال، وما ذكرناه لا يعدو نموذجا قد يتشابه أو يختلف عن مناخات مكانية عمانية أخرى، ولكنه يعكس في حضوره الجمعي تلك المساحة الجمالية لـ اللون في سنوات الذاكرة الأولى للأطفال.

رحلة الهبطة

(الهبطة) أو السوق المفتوح الذي يغذي احتياجات الإنسان العماني القديم في مختلف المناسيبات العامة، هو أحد محفزات الفرح عموما، للكبار والصغار، ولذلك حصل في تلك الفترات، أن يتم حمل الطفل على الكتف، بحيث يضع يديه الصغيرتين على رأس حامله لصنع التوازن، وخاصة أن الطرقات ذات ارتفاعات وانحدارات، كما هو الحال في بيئات الواحات الصحراوية أو الجبال.
في تلك الرحلة، يشهد الطفل مساحات بانورامية مترامية، أو تفاصيل تدهش عينيه الصغيرتين، أو تفتح مخيلته على ما وراء ما يراه، وحين وصوله إلى (الهبطة) ينزل عن الكتف، ليرى الألوان، ويتقاسم معها البهرجة، وتسكنه أحلام مختلفة، تبقى طي ذاكرته الصغيرة، ويتفاعل معها بعفوية خالصة.

أنوثة الفرح

إذا كان الرجل - بالشراكة مع المرأة - يهتم بعالم ألوان الطفل، فإن المرأة - بشكل مستقل - تهتم بألوان الأنثى، خاصة إذا تنامى إلى الذهن بأن النساء الأُول كنّ قليلات (التطريح) أي عمل حجوزات لخياطة وتجهيز ملابس الإناث، لأن معظمهن يعملن بأنفسهن على احتياجات البنات اللواتي يكُنّ تحت مسؤوليتهن، سواء كنّ بنات أو أخوات ، بخاصة وأن الألوان هي مساحة الفرح الداخلي التي ينبغي العمل عليها بمختلف الأشكال، حتى تتقاسم الفرح مع مختلف الإناث من ذوات العمر المشترك.
السبب في ذلك هو أن العيد - في مظهريه الصغير والكبير- يختلف عن بقية المناسبات، فهنا العذر يقل في التعاطي مع الفرح، والنسق الجمعي أدرك هذه الحقيقة، ولذلك دأب على التعامل مع هاتين المناسبتين بحذر شديد في ما يخص الطفولة، وما المرأة إلا جزء مهم من المتواليات التي تصنع مهرجان الألوان في عالم الإناث البكر، حيث الفرح وحده هو قرين المعادلة الوجودية، التي تظهر ملامحها في الضحكات وتمظهرات الاحتفالية الكبرى في الصباح المبكر من أول أيام العيد.

ظلال التفاصيل
منذ الليلة التي تسبق صباحية العيد، تبيت الملابس بالقرب، عند موضع الرأس، يتأمل الطفل تفاصيلها، مطوية بشكل أنيق، تسبقه مخيلته نحو الصباح، يحاول أن ينتصر على النوم، يسعى كي يبقى مستيقظا ليشهد ولادة الفجر، ولكن القنديل المتدلي من سقف الغرفة، والمعقود في (يدع/جذع) النخل الثابت على السقف، بضوئه الخافت، يجعله يغط في النوم، ليتم إيقاظه في الصباح، ويرتدي ملابسه، ويحصل على عيديته، ثم يخرج متباهيا جذلان بألوان طفولته، مندمجا مع الأقران، ليشكل - جميعهم - ظلالا ملونة في مكان (الخطبة)، حيث الألعاب والمأكولات، في مشهد تنفتح له سماوات القلوب.

عبدالله الشعيبي