يعيش كثير من المسلمين حالة من الأوهام الفكرية؛ بسبب غبش في التصور، وضبابية في الاعتقاد، وسوداوية في الرؤية، وانحراف في المنهج، وذلك منشأه وأساسه؛ أهواء نفسية، وأطماع دنيوية، بدأت في عهد بني أمية، وبمرور الوقت، وتعاقب الأجيال رسخت تلك الأوهام، فأصبح أولئك المسلمون يعيشون في تلك الأوهام كما لو أنها حقيقة، ويسعون جاهدين بكل ما أوتوا لإقناع الآخرين بصحتها، ومن هذه الأوهام.
أولاً: الإسلام عقيدة بلا عمل لقد فصل القوم الإسلام على مقاسهم بحسب أهوائهم، فجعلوه عقيدة بلا عمل، وزعموا أن العمل في الإسلام شرط كمال، لا شرط صحة، وبهذا هم فرغوا الإسلام من مضمونه وجوهره، وجعلوه نظريات جوفاء لا أثر لها على السلوك، ولا ثمرة لها في الواقع. أقول: زعمهم: أن الإسلام عقيدة بلا عمل، هذه عقيدة ميتة فاسدة؛ إذ لو كانت عقيدة حية صحيح لكانت دافعة للعمل، تتجلى في السلوك، وتظهر في الواقع، فالعقيدة محلها القلب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن القلب: " ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، وزعمهم: أن العمل شرط كمال لا شرط صحة مردود من وجهين: الأول: أن الله تعالى قرن في كتابه العزيز الإيمان بالعمل الصالح، ولا حجة لأحد بعد ذلك. ثانياً: كيف يستقيم هذا الزعم، والشرط هو ما لا يصح الشيء إلا به، وهو ما يتفق تماماً مع القول بأن العمل شرط صحة.
إن الحق الذي لا مرية فيه أن الإسلام تصديق وتطبيق. عقيدة وعمل؛ العقيدة هي التصديق، والعمل هو التطبيق. العقيدة محلها القلب. والعمل محله الجوارح. العقيدة تمثلها أركان الإيمان، والعمل تمثله أركان الإسلام، العقيدة هي الأساس، والعمل هو البناء؛ فلا عقيدة صحيحة بدون عمل صالح، ولا عمل صالح بدون عقيدة صحيحة، هذه هي المعادلة الحقيقية، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الدالة على تلازم الإيمان والعمل كثيرة، فالله تبارك وتعالى يقول: { والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. ويقول تعالى: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} سورة المائدة الآية"9"، ويقول تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} سورة مريم الآية"60"، ويقول تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدي} سورة طه الآية"82"، ويقول تعالى: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} سورة ص الآية"28"، ويقول تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم غير ممنون} سورة التين الآية"6".
ويقول تعالى مبيناً أهمية العمل في الإسلام: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة الآية"105"، ويقول تعالى: { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} سورة فصلت الآية"46"، ويقول سبحانه: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى} سورة النجم الآيات"39-41".
والنبي صلى الله عليه وسلم خير من ترجم الإسلام، وسار عليه، وعمل به في حياته الخاصة والعامة، وطبقه في جميع شؤونه وأحواله وها هو عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه البخاري يأمر بنته فاطمة، وعمته صفية، وعمه العباس بالعمل، قائلاً لهم : " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ومن أبطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وكفى بهذه الأدلة حجة على أن الإسلام تصديق وتطبيق. عقيدة وعمل.
ثانياً: الأماني الفارغة
تمنى القوم على الله الأماني الفارغة، وتعلقوا بالأمنيات الكاذبة، وهم في هذا يحذون حذو أهل الكتاب؛ فزعموا أن كل من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن فعل ما فعل من الكبائر، ومات من غير توبة، وزعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، وزعموا أن الله يغفر ذنوب غير التائبين، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته إن لم يتوبوا إلى غير ذلك من المزاعم، وهذه الأمنيات كلها مردودة بقول الله تعالى: { لَّيْسَ بأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} سورة النساء الآية"123". إن هذه الأماني الفارغة، والمزاعم الكاذبة لها أثر سلبي خطير على أصحابها يتمثل في عدم مبالاتهم بشرع الله تعالى، وتماديهم في المعاصي، واستهتارهم بوعيد الله تعالى وعقابه، واستخفافهم بعذابه ونكاله، فالقوم بهذه العقيدة أمِنوا من مكر الله تعالى أي من انتقام الله تعالى، ولا يأمن من مكر الله تعالى إلا القوم الخاسرون، فهم تنطبق عليهم هذه العبارة: من أمِن العقوبة أساء الأدب.

د/ يوسف بن ابراهيم السرحني