فـيقـول الله تعالى : { يا بني آدم خـذوا زيـنـتكـم عـنـد كل مسـجــد وكلـوا واشـربـوا ولا تسـرفــوا إنه لا يحـب المسـرفـين } (سـورة الأعـراف ـ 31)، وفي هـذا المعـنى يقـول الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) : (ما مــلأ ابن آدم وعـاء شـرا مـن طـنه ، بحــسب ابن آدم لـقـيمات يـقـمـن صـلبه ، وإن كـان لا محـالة ، فـثـلث لـطـعـامـه وثـلـث لـشـرابه وثـلـث لنفـسه ) أخـرجـه الـترمـذي : السـنن ، كـتاب الزهـد اب ما جـاء كـراهـية كـثرة الأكل حـديث رقـم : (2380 جـ4 ص 590).
فـكـثيرا ما يـعـقـب أكل الـدنيا وشـرابها ألم وتخـمـة وكظـة، قـد تـوصـل إلى المـوت ، ولعــل أكـثر الأمـراض تـنـجـم بما يـزد رده الناس في بطـونـهـم مـن الأطـعـمة والأشـربة المخـتـلـفـة الأشـكال المتنــوعـة والأنـواع المجـذبة ، ولا سـيما في هـذا العـصـر الـذي كـثـرت فـيه أنواع المأكـولات والمشـروبات المحـفـوظة ، التي قــد يطـول أمـد حـفـظـها فـيكـون ذلك الحـفـظ سـبـا لتـسـممها ، ولـكـن طـعـام أهــل الجـنـة هـنئ ، وشـراب مـريئ، ولـذك قال الله تعالى : { كـلـوا واشـربـوا هـنيئـا بمـا كـنــتم تعـملـون } (سـورة الطـور ـ 19)، كـلـوا وأشـربـوا كما شـئـتم ، ولا تخـافـوا أن تكـون عـاقـبة طـعـامـكـم ألمـا أو سـما أو مـغـصـا.
كـما يـدخـل في معـنى الهـنئ مصـير الطـعـام والشـراب ، فـكل طـعـام الـدنيا وشـرابها يصــيران إلى رجـيـع وفـضـلات لا يحـتاج الجـسم إليـها ، لـكـن الجـنـة تخـتلـف أحـكامها عـن أحـكام الـدنيا ، وإنمـا طـعـام الجـنـة وشــرابها يتحـول إلى عــرق طـيب الـرائحـة كالمسـك، لا إلى عــرق يـدنس الـثـياب ، ويـفـوح بـرائحة كـريهـة كـعـرق الـدنيا ، وهـذا ما ثـبت في بعـض الأثـار، تـلك حـكـمة التنـصـيص عـلى الهـنئ.
روى جـابـر بن عـبـد الله ـ رضي الله عـنه ـ قال : سـمعـت النبي (صلى الله عـليه وسـلم) يـقـول: (إن أهـل الجـنـة يـأكلـون فـيها ويشـربـون ، ولا يـتفـلـون ولا يـبـولـون ولا يتغـوطـون ولا يمتخـطـون ) قالـوا : فـما بال الطـعـام؟ قال : (جـشـاء ورشـح كـرشح المسك يـلهـمـون التسبيح والتحـمـيـد كـما تـلهـمـون النـفـس).
أخـرجـه مسـلم في صحيحه ، كتاب الجـنـة وصـفة نعـيمها باب في صـفـة الجـنة حـديث رقـم: (2835 جـ 4، ص 2181).
قال تعالى:{بمـا كنـتم تعـملـون}، الحـق أن هـذا النعـيم في الجـنة إنمـا هـو بفـضـل الله تعالى ، وهـو الـذي اقـتـضـت حـكـمـته أن يـجـعـل جـزاء عـمـل المـؤمـن كل هـذا الخـير الكـبير ، وإلا فـما قـيمة عـمـل المـؤمـن؟ ، ومـا مـقــدار عـبادته ؟، ولـو عـاش عـمـر نـوح عـليه السـلام أو أكـثر، حـتى يسـتحـق الخـلـود في الجـنـة ، ولا سـيما النسبة للـذين يعـيشـون عـمـارا قـصـارا ، عـشـرين سـنة أو ثـلاثـين ، وأعـمار أمـة النبي (صـلى الله عـليه وسـلم) كـما قال: (أعـمـار أمتي مـا بـين السـتين والسـبعـين).
عـن أبي هـريـرة (رضي الله عـنه) أن رسـول الله (صـلى الله عـليه وسـلم) قال: ( أعـمـار أمـتي مـا بـيـن السـتين إلى السـبـعـين وأقـلهـم مـن يجـوز ذلك ).
أخـرجـه أبن ماجـة السـنن: كتاب الـزهـد باب الأمـل والأجـل حـديث رقـم: (4236جـ 1 ص 1415).
ولـكـن لـفـضـل الله تعالى الـواسـع قال:{بمـا كـنـتـم تعـملـون} ، وإلا فـلـو حـوسـب أبن آدم لما كانـت طـاعـته طـول عـمـره في الـدنيا مـكافـئة لنـظـرة واحـدة إلى جـمال العـالم، ولـكـن الإنـسان المغـرور يـقـول مـتـبجـحـا : لـقـد صـليت وصـمـت وزكـيت، وفـعـلـت ، وفـعـلـت فـعـالا، يا أيها الإنـسان العـابـد طـول عـمـره ، لـو حـوسـبت عـلى نـظـرك الـذي تـتمـتـع به ، فـلـو لم تكـن تمـلـكـه لكـنـت تـشـتريـه بعـمـرك كله.
ومـن النـوادر التي تحـكـى ، أن بـهـلـولا اعــترض مـوكـب أمـير المـؤمـنـين هـارون الـرشـيـد في بعـض رحـلاته التي يخـرج فـيها ، فـأراد الحـراس أن يمنـعـوا الـبهـلـول مـن الاقـتـراب مـنه ، فـقـال هـارون الـرشـيـد دعـوه ، فـتقـدم الـبهـلـول فأمسـك بـلجـام فـرس هـارون الـرشـيـد ، فـقال له : يا هـارون لـو غـصصت بجـرعـة مـاء بكـم كـنـت تشـتري النجـاة مـن هـذه الغـصـة ؟ ، قال هـارون الـرشـيـد : أشــتريها بنـصـف مـلكي ، ثـم قال له الـبهـلـول : إن احـتبسـت جـرعـة المـاء هـذه واحـتقـنـت ، فـلـم تخـرج مـع البـول فأصـابـك عـذاب ألـيـم ، فـبـكـم كـنـت تشــتري النجـاة مـن هـذا الحـصـر؟ ، قال هـارون الـرشـيـد : أشـتريه بنـصف مـلكي الباقي ، فـقال البـهـلـول : تـبا لمـلك يـذهـب في شـرقـة وبـولـة ، عـلما بان مـا كان يمـلكه هـارون الـرشـيـد لا تـكـاد تغـرب عـليه الشـمس ، وكان إذا رأى سـحابا يـقـول له : امـطـر حـيث شـئت فـخـراجـك سـيصـل إلي.
دخـل ابن السـماك العـالم الـرباني عـلى هـارون الـرشـيـد يـوما، فـبينمـا هـو عـنـده إذ طـلب مـاء ليشـرب ، فأتي بقـلـة مـن مـاء ، فـلما أهـوى بهـا إلى فـيه لـشـربها ، قال له ابن السـمـاك : عـلى رسـلك يا أمـير المـؤمـنـين ، بـقـرابـتـك مـن رسـول الله صـلى الله عـليه وسـلم لـو مـنـعـت هـذه الـشـربة بـكـم كـنت تشـتريها ؟ ، قال : بنـصـف مـلكي ، قـال : أشـرب هـنـأك الله ، فـلمـا شـربهـا قال لـه : أسـألـك بقـرابـتـك مـن رسـول الله صـلى الله عـليه سـلم لـو منـعـت خـروجـها مـن بـدنك بمـا كـنـت تشـتري خـروجـها؟ ، قال هـارون الـرشـيـد : بجـمـيع ملكي ، قال ابن السـماك: إن ملكـا قـيمـته شـربة ماء لجـديـر ألا يـتنـافــس فـيه المتـنافـسـون، فـبكـى هـارون الـرشـيـد، فأشـار الـفـضل بن الـربـيـع إلى ابن السـمـاك بالانصـراف فانصـرف (المـصـدر تاريخ الطـبري جـ 5 ص 22).
هـذه نادرة لنا فـيها عـبرة كـبيرة ، كـي يسـتـقـل المـرء عـمـله أمام نعـم الله تعالى ، فـلـو حـاسـبنا الله لـما كان عـمـرنا (ولـو بـلـغ مـائـة سـنـة ، وقـضـينا سـاجـدين لله تعالى) في مـقـابـل البـصـر او السـمـع أو الـذوق ، ولـكـن مـع هـذا قال الله تعالى لـطـفـا منه ومـنـة : {جـزاء بما كانـوا يـعـمـلـون } ، لـيرغـبنـا في العـمـل ويـشجـعـنا عـلى المـزيـد مـن الإحـسان ونـعـلم أننا مهـما بالـغـنا في العـبـادة جـهـد اسـتطـاعـتـنـا ، فـلـن نـبـلـغ حـق الله تعالى عـلينا، ولـكـنه ( وهـو الغـفـور الـرحـيم والـولي الكـريـم ) يـتقـبـل مـنا السـير ويعـفـو عـن الكـثـير ، فـيـمـتـعـنا بهـذه الجـنـة التي نـتـفـكـه فـيها جـزاء ما كـنا نعـمـل في الـدنـيا.
كـما يـريـد الله تعالى مـن قـوله : { جـزاء بما كـانـوا يعـمـلـون } أن يـركـز في قـلـوبنا أن الجـنـة لا تنـال إلا بالعـمـل الصالح ، الخـالـص لـوجـهه الكـريـم ، فـلا يطـمعــن أحـد في دخـولها بـدون إخـلاص العـمـل لله ، وهـذه هـي الحـكـمة الكـبرى التي عـليـنا أن نجـليها نحـن المـكـلـفـين الـذين نعـيـش في الـدنيـا ، أن نعـلم ونـتيـقـن بـأن الجـنة لا يـدخـلها إلا المـتقـون العـامـلـون المخـلصـون.
كـما يسـتروح مـن قـوله تعالى:{ جـزاء بما كانـوا يعـمـلـون } تـشـريف الله تعالى للمـؤمـنـين ، فـجـعــل اسـتحـقاقـهـم دخـول الجـنة والتـنـعـم فـيها جـزاء بما كـانـوا يعـمـلـون ، وهـو يـعـلم أنهـم إنمـا دخـلـوها بـرحـمـته وعـفـوه وكـرمه وفـضـله ، كـمـن يعـطي ابنه أو عـامله جـائـزة مـقـابـل عـمـل قام به ، ثـم يـقـول له : هـذه مـكافـأة لك عـلى عـمـلك الـذي قـمـت بـه ، ولـو كان عـمله ذلك لايـكا فيء تلك الجـائـزة أو ذلك الثــواب.
وجـاء قـوله تعالى في شـأن المـؤمنـين:{ كـلـوا واشـربـوا هـنيئا بمـا كـنـتم تعـملـون } في مـقـابـل قـوله تعالى في شـأن الكـفـرة : { اصـلـوها فاصـبروا أو تصـبروا سـواء عـليكـم إنما تجـزون ما كنـتـم تعـمـلـون } (سـورة الطـور ـ 16)، وتنبهـوا وتـدبـروا إلى هـذا التعـلـيـل في هـاتـين الآيـتين ، الــذي يـدل عـلى أن كل شـيء يتعـلـق بالعـمـل ، فـلا يطـمـعـن عـامـل بالمـعاصي أن ينجـو مـن النار ، ولا يخـاف العـامـل بالطـاعـة أن لا يجـازى بالجـنـة ، فالطـمـع في النجـاة مـن النار مـع ارتـكاب المعاصي ضـلال وغـرور ، والطـمـع في دخـول الجـنـة مـع عـدم الـطـاعـة والعـمـل الصالح ضـلال مـبين ، فـكـلا قال فـيهما: { جـزاء بما كـنـتـم تعـمـلـون }.
عـجـل الله تعالى بـقـوله:{ كـلـوا وأشـربـوا هـنيـئا بما كـنتـم تعـمـلـون } في سـياق ذكـره لأصـحـاب النعـيم تطـميـنا لهـم بأنه لا صـيبهـم أي مـكـروه ، وتـشريـفا لهـم بأن هـذا الجـزاء كان بـعـملهـم ، ثـم يـواصـل الله تعالى الـكـلام بـتـعــداد نعـم الجـنة فـيقـول:{مـتكـئين عـلى سـرر مصـفـوفـة وزوجـناهـم بحـورعـين } (سـورة الطـور ـ 20)، ومـن المعـلـوم أن الجـلـوس عـلى الأسـرة مـن وسـائـل الـرفاهـية في الـدنيا ، ولـذلك يتخـذ المـترفـون الأسـرة في بـيـوتهـم لـيتـكـئـوا عـليها ، ويصـفـونها في قاعـات بيـوتهـم ليجـلسـوا عـليها لما في ذلك مـن المـتـعـة والراحـة.
.. وللحـديث بقـية.

ناصر محمد الزيدي