[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
قال الجاسر: "حقا كنت أنظر إلى الصحافة نظرة أسمى من أن تُعنى بإضفاء الثناء والمديح لولاة الأمور، إنها في رأيي وسيلة إنارة لأفكار المجتمع، وتبصيره بما يجب أن يهتم به، من تفقد أحواله وشؤون إصلاحه، ولفت نظر أولئك الولاة إليها، فكنت أبرز هذه الأمور، بينما خصصت جانبا ضيقا في الصفحة الثانية، لذكر أخبار الملك وتنقلاته، دون التوسع في إضفاء المديح والثناء.


إذا قلت إن تاريخ العلامة الشيخ حمد الجاسر "1910 - 2000"، هو تاريخ المملكة العربية السعودية، هل أكون على خطأ كبير يا ترى؟! وإذا قلت إنه يضيف إلى ذلك التاريخ، أبعادَ المعرفة العصرية الدقيقة، في ميداني الجغرافية الطبيعية والبشرية اللذين لها، مما يعطي للتاريخ بعدا معرفيا اجتماعيا حيا، يؤثر في فهم الماضي والحاضر، ويساهم في رسم صورة المستقبل، ويساعد على التحديد والتمحيص والتدقيق والمقارنة.. فهل تراني أكون جانبت الصواب؟! إنني لا أظن ذلك، فحمد الجاسر تاريخ، وموسوعة معرفية، وإنجازات متقدمة، وتجربة غنية.. ويكاد يشبه المملكة العربية السعودية، التي نشأت في الفاقة والجهل ومناخ التحديات، واتسعت في مدى النعمة والنعيم والعلم، مستجيبة بإيجابية تفاعلية للتحديات، ليقدِّم واحد من أبنائهاعطاء متميزا، غير مظنون به ولا ممنون، هو الشيخ حمَد الجاسر، الذي شدَّ أزر العلم والمعرفة، بمعارف الجزيرة العربية وأنساب العرب وقبائلها وأعلامها، ومعالم الأرض التي هي ديار الشيخ حمد الجاسر، فيقدم أكثر من منهج ومدرسة، لمن يريد أن يتعلم دروس العلم العملي الشاق، في مواقع الفحص والتجريب والخبرة الميدانية، وأن يتعرف على سمو منزلة الرجال بالعلم، مع تواضع يزين مفارق الزمن والرجال.
والعالم الباحث الشيخ حمد الجاسر غاب عنا ولم يغب، غاب عنا جسده وبقي من روحه وجهده وعلمه وجهاده، ما ينفع الناس.. وتراه يرفرف في سمائهم، ويروي نفوسا ظمأى إلى المعرفة، ومتطلعة إلى القدوة الحسنة.. وهو في حضوره، يشعرك كأنما لم يغب، كما قال فيه صديق له، هو خالد الخنين:
يا رائعَ الحرف، باقٍ ما مضيت، وما
غابَ اليراعُ، ولا عَنَّا مضى أثرُ
فمجلة "العرب" التي صدور أول عدد من أعدادها، في شهر تشرين الأول- أكتوبر 1966م رجب 1386هـ/ قدَّمت معرفة مهمة، وهي مجلة: "متخصصة في تاريخ العرب وآدابهم وتراثهم الفكري"، إذ تكاد تلك المجلة التي أنشأها وأشرف عليها وخصَّها بمعظم إنتاجه.. تكاد تلخص تاريخ الاهتمام المعاصر في المملكة، بالتراث والعلم، والمواكبة المعاصرة لإنجازات علمية في مجال التراث والموروث. وقد كانت ضالَّته التي اهتدى إليها، والظل الذي كان يفيء إليه، كلما لفحه حرُّ الهاجرة البشرية على الخصوص، بعد أن طوَّف في مجالات عمل كثيرة، منها التعليم والصحافة، فقد كان وراء دفع حركة الصحافة في المملكة، ولا سيما في الرياض.
كانت هناك حوادث، أو مصادفات ثلاث، كان لها أثر في توجه الأستاذ الجاسر هذا التوجه، والوصول إلى ما تركه لنا من أثر خالد، تعد مجلة العرب، وعاء وسجلا له بالدرجة الأولى. والمصادفات أو الحوادث أو المحطات الرئيسة الثلاث، التي نتوقف عندها، متلمسين أثرها الحاسم في حياته، وتأثيرها الكبير فيه هي:
1 – محطة: ينبع عام 1934م، والتدريس، ورضوى:
ففي عام 1934م كان حمد الجاسر مدرسا في ينبُع، ولديه حس المثابرة والدأب، وفي درس من دروسه، كان يشرح فيه شعر أبي العلاء المَعري، وصل إلى قول إبي العلاء:
يَهمّ الليالي بعضُ ما أنا مضمِر
ويثقلُ" رَضوى"، بعضُ ما أنا حاملُ
وأخذ يشرح البيت معتمدا على معارفه المستقاة من المصادر والمراجع الموثوقة، فوقعت له مع الطلبة واقعة رواها قال:
".. فكان مما قلت، متأثرا بما طالعته من شرح البيت: رضوى جبل قريب من المدينة، سهل المرتقى، ترعاه الإبل". فقال التلاميذ بصوت واحد لا لا يا أستاذ، انظر إلى هذا الجبل الأسود الكبير الذي تشاهده من النافذة، إنه رَضوى. قال: فخجلت من نفسي وقلت: لا خير في أستاذ يكون طلابه أعرفُ منه، فكان أن اتجهت لدراسة المواضِع الواردة." يعني تلك التي انصرفَ إلى دراستها في الجغرافية والمواقع والأنساب ... إلخ
وكان أن بدأ مرحلة التقصي بنفسه، مستفيدا من الكتب، عارضا معلوماتها على التجربة والعمل الميداني والمنطق، حيث كان يتثبَّت من المواقع، ويذهب إليها سيرا على الأقدام أحيانا، ومستعينا بالجَمل أو الدواب القادرة على تلبية الغرض، حسب مواصفات الأمكنة. وكم صحح من معلومات ووضح من معالم، ساعدت على فهم أفضل، حتى لأسأل نفسي، بعد أن اطلعت على بعض جهده وتفسيره وقراءاته للشعر، من خلال البيئة والمواقع: هل يمكن أن يستقيم فهمُنا للشعر العربي، من دون أن نعود إلى جهد ذلك الرجل، حمد الجاسر، في الجغرافية البشرية والطبيعية، ودراسة الأنساب وقبائل العرب.. لما لذلك من تأثير في الفهم والتفسير، وربط الإبداع بالمكان والزمان والناس!؟ وأزعم، أن فهما دقيقا لإنتاج بعض شعراء العربية، مما تظهر فيه أسماء الأماكن، ويؤثر عدم فهمها، وعدم تحديد مواقعها، ومعرفة مناخها.. كل ذلك يؤثر على الفهم والتذوق والشرح والتسويغ والمقارنة. لا سيما وأن الجاسر، تعرض لذلك من خلال فنون عدة، بذل جهدا متميزا فيها منها: البلدان ـ الأنساب ـ المواقع ـ التصحيف ـ التراجم والأعلام ـ ومترجَمات، لا سيما في مجال تاريخ الجزيرة العربية.
2 – محطة: 1940م ونشوب الحرب العالمية الثانية… وتركه القضاء:
في عام1940 كان الجاسر طالبا في جامعة القاهرة، ووقعت الحرب العالمية الثانية، فترك الدراسة وعاد من حيث أتى. ورُب ضارة نافعة كما يقولون، ولكن الجاسر كان على شيء من وضوح الرؤية، ودقة الاختيار، فيما أقدَم عليه. قال الشيخ حمد الجاسر، عن المرحلة التي كان فيها طالبا في كلية الآداب ـ جامعة القاهرة /1940 م/ "أدركت أن محافل العلم، من كليات ومدارس وغيرها، إنما هي وسيلة للاستزادة منه، لمن أوتي فهما، فهي لا تزيد على إيضاح الطريقة التي يستطيع أن يستزيد الطالب بها العلم، بجهده هو وحده" (من مقابلة معه في الأسبوع الأدبي العدد 650 تاريخ 6/3/1999). وهكذا كان، إذ ترك جامعة القاهرة، وعاد ليقوم باستنفاد جهده وحده، فيما يهمه من معلومات في الكتب التي يعود إليها، على ضوء ملكته وفهمه وتجربته وحاجته، فيغني معرفته الذاتية، ويغني المعارف التي في تلك المصادر والمراجع، بالتدقيق والتمحيص والتصحيح والتوضيح. وقد ساعده على ذلك، تفرُّغُه الكلي للعلم والمعرفة، بعد أن ترك الوظيفة، التي لم يجد نفسه في رحابها، ولم يجد أنها تلائمه تماما.
وقال د. يحيى الساعاتي، أحد أساتذة علم المكتبات، ومدير واحدة من أعظمها في المملكة العربية السعودية، قال مستقرئا نفس الجاسر وطبعَه، في تلك المرحلة من مراحل عمره وعمله، وفي ذلك الاختيار من اختيارات العمل التي قام بها، وتطلع إليها، قال: "أدركَ أن العمل الوظيفي لا يتناسب وطموحاته العملية الكبيرة، فاختار طريق الصحافة، حيث زاولها مهنة وعملا، وأصدر في عام 1372هـ صحيفة اليَمامة" (من مقابلة له في جريدة الأسبوع الأدبي 6/3/1999). ولكن نفسه التي هفَت للصحافة، وتعلقت بها، واكتوت بنارها، وذاقت حلاوتها، لم تلبث أن اتجهت به وجهة أخرى، في ميادين العمل والبحث، ولم يكن ذلك من دون أسباب وموجبات. ويفضي بنا هذا إلى الوقوف على الحالة، أو المحطة الثالثة، من المحطات التي أشرنا إليها، وهي:
3 – محطة: عبدالله عمر بلخير 1952م والخلاف حول العمل الصحفي، ثم توجه الجاسر نحو مجلة العرب.
اقتنع حمد الجاسر برسالة الصحافة، وبقدرتها على التأثير، وضرورة أن تقوم في نجد صحافة متقدِّمة.. وواتته فرصة مناسبة، حيث "أقنع الملك سعود بن عبدالعزيز، بإنشاء صحيفة في الرياض، وكان يدير شؤون البلاد في أثناء مرض أبيه الملك عبدالعزيز، فكانت ولادة جريدة اليَمامة في شهر ذي الحجة 1372هـ ـ 1952م وطُبعت أجزاؤها الأولى في مصر،" ثم في مكة المكرمة، ثم في لبنان.
يقول: "وأذكر أنني بعد أن أصدرت العدد الأول من مجلة اليمامة، باسم "الرياض"، وهو الاسم الذي اخترته، ومنحت رخصة به من قلم المطبوعات بوزارة الخارجية، بناء على أمرٍ سامٍ بذلك، فعارض الشيخ عبدالله عمر بلخير، وكان إذ ذاك مستشارا لولي العهد الملك سعود، حتى صدر أمر بعدم دخول ذلك العدد البلاد، إلا بعد تغيير الاسم". وقد بذل جهدا لتغيير هذه الإرادة الملكية، وقدم طلبا إلى وزارة الخارجية، ملتمسا إعادة النظر بالأمر، وتوسط لدى صديق له، هو خير الدين الزِّركلي، ليساعده في ذلك، فما أثمر المسعى. وجاءه خطاب بتوقيع صديقه خير الدين الزِّركلي، وكيل وزارة الخارجية، ردا على طلب الاعتراض الذي قدمه، ومما جاء فيه:
"جرى عرض طلبكم تغيير اسم المجلة، على المقام السامي، فوافق بأن يكون الاسم "نجد اليمامة" أو "يمامة نجد". ومع الخطاب رسالة تقول: هذا هو الأمر السامي، وليس لي فيه إلا التوقيع، ولن تعدموا وسيلة من الوسائل في الموضوع" (عن مجلة العرب ص632 ك2/1977. ـ تم إصدار جريدة الرياض بالأمر السامي رقم 7183 تاريخ 13/4/1372 تصدر شهريا إلى أن تصبح يومية. توقيع سعود بن عبدالعزيز).
وقد تمكن حُبُّ الصحافة من نفس الشيخ، وشده بوثاق متين إلى ملكة بلا تاج، تهرس تيجان ملوكها. وهو في تعلقه بالصحافة، يصدق فيه قول الشاعر:
والحب أوَّلُ ما يكون صَبابةً
فإذا تمكَّن، صارَ شُغلا شاغلا
وهذا شأنه كان مع الصحافة التي تركت في نفسه، حتى بعد انصرافه عنها للصحافة الأدبية والبحث، ندوبا عميقة وشوقا، أكاد ألمحُ تباريحه في الحشا.
في لقاء لحمد الجاسر في أخريات أيامه، أجراه معه في الرياض محمود الأرناؤوط، ونشر يوم السبت 19 ذي القعدة 1419هـ الموافق 6/3/1999 في العدد 650/ ملحق الأسبوع الأدبي، يروي حمد الجاسر، ما أستشعر مرارته على لسانه، بعد مرور كل تلك السنين على الحدث الذي تغطيه الرواية. وما اختياري لسوق طرف من الحديث، على الرغم مما في ذلك من إطالة، إلا لأشير إلى مبدئية الرجل، وخلقه، ونظرته للصحافة ورسالتها وأهدافها.. لا سيما إذا كانت تصدر من موقع محدد، يتداخل فيه معنى المكان والتاريخ والعقيدة.. ولأشير أيضا، إلى ما لاقاه الرجل من متاعب، وما تحمله من ضنك، في سبيل مواقفه ومبادئه واختياراته، وهو الصحفي المتعلق بشرف المهنة، يؤذيه الإسفاف، كما يؤذيه التوظيف السيء للمنابر، والقائل: ".. وبعد فما أيسر الإسفاف والتدنّي، وهما أمران يربأ كل عاقل أن تنزل صحافتنا إلى مستواهما!" (حمد الجاسر: العرب تستقبل عامها الثامن ـ ج 12 س 7 ـ تموز، يوليو 1973 جمادى الآخرة 1393 هـ).
قال الجاسر: "حقا كنت أنظر إلى الصحافة نظرة أسمى من أن تُعنى بإضفاء الثناء والمديح لولاة الأمور، إنها في رأيي وسيلة إنارة لأفكار المجتمع، وتبصيره بما يجب أن يهتم به، من تفقد أحواله وشؤون إصلاحه، ولفت نظر أولئك الولاة إليها، فكنت أبرز هذه الأمور، بينما خصصت جانبا ضيقا في الصفحة الثانية، لذكر أخبار الملك وتنقلاته، دون التوسع في إضفاء المديح والثناء.
من هنا نشأ في نفسه ـ رحمه الله ـ بتأثير تلك البطانة من التأثر عليّ، ما سبب لي مصاعب كثيرة، من سجن وغيره، ومن آخرها أن مستشاره المشرف على شؤون الإذاعة والصحافة والنشر، عبدالله عمر بلخير ـ حضرمي الأصل. كان حين وقع الخلاف بين سعود وعبدالناصر ـ رحمهما الله ـ واشتدّ حتى شُغلت صحافة القطرين بهذا الأمر، فكان بلخير يبعث بمقالات تهاجم والي مصر والمصريين، وكان موقف "اليَمامة" إذ ذاك، عدم نشر أي شيء يتعلق بهذا الأمر. وكان بلخير يُغري على نشر ما يبعث، بأن قرر عن نشر كل مقال ثمانين ريالا، ولها قيمتها إذ ذاك، مع شراء جميع النسخ التي يُنشَر فيها المقال (.... ) فبعث إليّ أول مقال بهذا الشأن، فهاتفته بأنني سأنشر المقال بعنوان: (جاءنا من المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ما يلي) ثم أُورده، فقال: لا، يجب أن تنشروه كأنه من الصحيفة، كما تفعل الصحف الأخرى، فأظهرت له أن بلادنا قِبلة العالم الإسلامي في جميع أقطاره، فإذا جارينا غيرنا، بما لا يتّفق مع قواعد ديننا، فماذا الذي يتطلع إليه ذلك العالم عندنا، وهم يعدوننا قِبلة لهم، وقدوة في الأخلاق والأعمال الصالحة، والله قد وصف عباده المؤمنين بقوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه)، وبقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، وهذه المهاترات مما يوسع الشِّقة والخلاف بين المسلمين، والله أمَرهم باتحاد الكلمة.. إلى آخر ما أوضحت له. ولكنه صمم على رأيه، وكانت النتيجة أن صدر أمر الملك في شهر رمضان 1381هـ بإلقاء القبض عليّ وسجني عدة أشهر في الرياض، وتأديبي، ثم نفيي إلى قريتي (البرود) وحجزي بإقامة جبرية فيها، وكنت عند صدور هذا الأمر في (بيروت)، فأُبْلغتُ به، فبقيت سنين مقيما في لبنان، حتى تولى الملك فيصل ـ رحمه الله ـ الحكم، ورغب مني العودة، فتريثت حتى حدثت حوادث (بيروت) التي لاقيتُ خلالها الأمرّين، حتى خرجتُ وعدت إلى الرياض، ثم أصدرتُ مجلة "العرب"، متخصصة في تاريخ العرب وآدابهم وتراثهم الفكري، ورأيتُ هذا أسلم لي من ممارسة العمل في الصحافة، مع أنني منحتُ امتياز إصدار (مؤسسة اليمامة الصحفية) التي يصدر عنها الآن (الرياض اليومية، واليَمامة، وصحيفة أسبوعية باللغة الإنجليزية)، غير أنني تباعدتُ عن الكتابة فيها، وفي غيرها من الصحف، سوى المباحث التاريخية، إذ سبق لي أن حدثت مشكلات بيني وبين علماء الدين، سببت لي أذى كثيرا، مع أن تخصصي ـ ولله الحمد ـ في العلوم الدينية، حيث تخرجت من (قسم القضاء الشرعي) في المعهد في مكة سنة 1354هـ".
ونحن، في هذا كله، نلمس صلابة الرجل، وثباته على الحق والرأي والموقف، وقدرتَه على متابعة طريق صعبة، واختيارات أصعب، كان يمكنه تجنب مراراتها، ودفع أثمانها الباهظة لو أراد.. فالناس في زمنه، وربما في كل زمان، ينطبق عليهم قول الشاعر القطامي الذي قال:
والناس من يلْقَ خيرا قائلون له
ما يشتهي، ولأُمِّ المخطئ الهَبَلُ
أدت المصادفات الثلاث، التي أشرت إليها وتوقفت عندها قليلا، إلى تحول الشيخ حمد الجاسر إلى البحث والصحافة الأدبية ـ العلمية الرصينة التي لا ترضي ذوق المولعين بالورق الملون، والإخراج المتدفق حركة. وسجّلت المجلة، "العرب"، حضورا في أوساط علمية، وأراحت الشيخ الجاسر، وجعلته يرى فيها ثمرة طيبة لجهده وجهاده. وقد سجل رضاه في افتتاحية العرب شباط 1995 ص 13، حيث بلغت الموضوعات المنشورة له فيها، حوالي 900 موضوع. قال: "إنني حينما أتصفح، أو أنظر في هذه الثلاثين من مجلدات المجلة، أُحسّ بشيء من الراحة والاطمئنان، ليس مبعثُهما الاعتزاز بتصور ما تحويه من آراء وأفكار، هي وإن كانت عصارة عقلي، وثمرة تفكيري، وخلاصة جدّي واجتهادي في البحث والدراسة، في الموضوعات التي طرقتها خلال تلك الحقبة من الزمن، التي أعدّها أحفل أيام حياتي بالعمل، فأنا أدرك ما يعتور عمل الفرد من نقص وقصور، وما يعتري أفكاره وآراءه من خطأ وخلل، ولكن مع ذلك كله، فلأنني أدركت عن يقين وثقة، بأنني سلكت نهجا قويما، بصرف النظر عما اعترى سيري من تعثر أو عدم استقامة في الاتجاه، في حالات ليست قليلة.. ولعل سمو القصد، وبذل الجهد، مما يشفع لي حيالها".
لقد بلغ الجاسر التسعين من عمره وهو يعطي، ولم تتوقف مجلة العرب، سجله الذهبي، عن الصدور، ولم يتوقف نشاطه العقلي، ولا تدفق حكمته. وأراه ينطبق عليه قوله الحكيم: "أصالة الرأي، وسداد القول، وصدق التمييز بين الأمور، كل ذلك لا يختص بزمن دون آخر من عمر الإنسان، إلا أن المرء، كلما تقدمت به السن، كان أكثر تجاربا وخبرة وإدراكا لحقائق كثير من أمور الحياة".. وأضيف، أنه يمكن أن يصبح أكثر قدرة على التعبير عن ذاته، بوضوح وسلاسة وجرأة. وهذا ما كانه حمد الجاسر، الذي حافظ على عقل نيّر، في عصر متغير، فلم يفقد أصالته، ولا هو تحجَّر وتقوقع وانقطع في فيافي الماضي، غير مدرك لتيار التغيير والمتغيرات من حوله. وكما قال المتنبي:
وما الحداثةُ من علمٍ بمانعةٍ
قد يوجد العلمُ في الشُّبَّان والشّيبِ
كان شيخنا، ممن يصدق، ويعرف الفضل، ويطري أهله، وممن لا تمنعهم مرارات الأيام، وجور بعض الأحكام، من تبيُّن الحق، وذكره، والاعتراف بالفضل لأهله. وقد قال، وهو الذي عرف مرارة السجن بأمر الملك، وأحس بالغربة، وعانى من الحرب المدمرة التي أحرقت الأخضر واليابس في لبنان.. قال حمد الجاسر، موجزا أهم الحوادث المفصليَّة في سيرته: "الملك عبدالعزيز أنقذني من الجهل، والملك فيصل من السجن، والملك خالد من المرض.. أهلي حفروا قبري أربع مرات.. بكيت على كتبي المحترِقة، أكثر من بكائي لاحتراق ولدي محمد في الطائرة".
وقد أوتيَ فقيدُنا الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي شيئا كثيرا. ويبدو لي أن أفضل ما أوتيه من حكمة، اكتشافه المبكّر لسمو النفس البشرية، ولما يرتفع بها في معارج السمو.. اكتشافه قيمة الروح والهدف السامي، والترفُّع البناء، في حياة تزخر بالمادة ومغرياتها، تعيشها نفسٌ معرَّضة لكثير مما يفسد النفس والروح، أو يضعفهما أو يلوثهما، ولما قد يغريهما به الجسد، وأزماتُه ونشواتُه ونزعاتُه، فتكون من عبيده، وتُدفَن في دِمَنِه. ويبدو أن كشفه ذاك، نجَّاه من هذا النوع من التهلكات.
قال: "إن أبشع خطأ ارتكبه الإنسان منذ وجوده في هذا الكون، منذ وجوده على ظهر البسيطة، هو اعتقاده بأن المادة هي كل شيء فيه، وأنها هي الغاية ولا شيء غيرها. وإذن فما أحقر حياة هذه غايتها" (حمد الجاسر ـ مجلة: العرب ـ شباط 1995 ص2).
ويطيب لي، وأنا أنهي كلمتي البسيطة في ذكرى عالم جليل ومقامه، أن أستعير قوله في ختام بحثه عن العَلاء بن الحضرمي، فقد وجدت في ذلك القول، انطباقا على حالنا مع الشيخ العالِم، فقد قال:
"... ومعروف أن الرّمال تسفيها الرياح، فتزول معالمها. ولكن آثار البطولة النامقة، تبقى خالدة مدى الدّهر". وهذا حالنا مع حمد الجاسر، طيب الله ثراه، وغفر له، ونفَعَ بعلمه، وأسكنه فسيح جناته؛ إنه على كل شيء قدير.