[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
يشكل إخفاق التواصل بين المثقف وبيئته الاجتماعية معضلة معقدة تزداد عصيانا على الحل بسبب ذات النظرة الفوقية، المشحونة بالخيلاء والنرجسية أحيانا، خاصة تلك التي تخص بها الحكومات المثقف العربي، بوصفه يمثل "أرستقراطية موهبة" عاجزة عن الفعل السياسي المؤثر، أرستقراطية يمكن منحها فتحة تعبير هنا ونافذة رأي هناك على سبيل عرض الحكومات لذواتها بوصفها راعية للثقافة، وليس عدوا أو مقاوما لها!

تتشبث مجتمعاتنا العربية بمثاليات وقيم "حلم وسيط"، بمعنى أنها راحت تحيا في غياهب حلم عبثي يرنو إلى العودة إلى القرون الوسطى وإلى أجوائه، ودليل ذلك ظهور وانتشاء الحركات السلفية سياسيا، زد على ذلك تطور الحركات الرجوعية المتمثلة بالحنين المتعامي إلى الماضي المطوي، بغض النظر عن الحاجة إلى ملاحظة ضرورات مواكبة العصر، واستمكان مخاطر الفجوة الحضارية المتسعة التي تفصل مجتمعاتنا عن المجتمعات المتقدمة التي تقدر المثقف، برغم كبواته وإسقاطاته واستحالاته، بالاحترام والتقدير.
قد يقول القارئ إن أهم أسباب هذه المعضلة هو المثقف ذاته، لأنه يرى نفسه أعلى مرتبة من الآخرين، وبـ"الآخرين" هو يريد الإشارة إلى هؤلاء المنساقين وراء "غريزة الجماعة" العمياء التي تتخلى عن القيم الحضارية الرفيعة لصالح القيم المبتذلة، أي تلك التي يمكن أن نطلق عليها وصف القيم السوقية. ثمة مبررات عدة، قد تكون مقبولة، تكمن وراء شعور المثقف بالعلوية حيال دونية ما يراه من حوله في الشوارع والمقاهي والإعلام، وفي سواها من الأماكن العامة، الأمر الذي يبرر شعوره بالغثيان نظرا لإخفاق رؤاه وفشل قنوات التواصل بين الاستنارة الفردية وبين جهل الجمهور الذي لا يمت بصلة للثقافة.
يشكل إخفاق التواصل بين المثقف وبيئته الاجتماعية معضلة معقدة تزداد عصيانا على الحل بسبب ذات النظرة الفوقية، المشحونة بالخيلاء والنرجسية أحيانا، خاصة تلك التي تخص بها الحكومات المثقف العربي، بوصفه يمثل "أرستقراطية موهبة" عاجزة عن الفعل السياسي المؤثر، أرستقراطية يمكن منحها فتحة تعبير هنا ونافذة رأي هناك على سبيل عرض الحكومات لذواتها بوصفها راعية للثقافة، وليس عدوا أو مقاوما لها! إن أهم ميزات المثقف الحق، أي المثقف الذي أضنى نفسه وحياته في تطوير ملكاته الفكرية والمعرفية، هي ميزة "البصيرة" التي تتفوق على البصر في قدرتها على اختراق الأغطية الاجتماعية المنافقة والمفتعلة والتجميلية التزويقية على سبيل معاينة المبطون الخفي الذي لا يرى بالعين المجردة. هذه الرؤية، بحد ذاتها، كافية لضمان حياة غير مرضية للمثقف العربي ومصير مؤسف له، وأقصد المثقف الذي تنظر إليه السلطة على نحو دوني وتعامله كجزء من ديكور، بينما ينظر إليه الجمهور كعضو غريب ومستزرع، يتموقع في دواخله.
وإذا كانت الصلة بين المثقف والمهاد المحيط به صلة تفاعلية (مؤثر ومتأثر)، فإن الدولة غالبا ما تطلق أيديها لمعالجة جذور المشاكل وأسباب الاحتجاج الاجتماعي (التي غالبا ما ترمى على عاتق المثقف) بالعنف، ذلك العنف المرشح دائما للبتر.
هذه جوانب موجعة من "اغتراب" المثقف في مسقط رأسه، منفاه، بداخل إنائه الاجتماعي المحلي، للأسف. هذا الاغتراب هو ما ينبغي أن يقودنا إلى مباشرة مسألة أخرى، خاصة في حدود عالمنا الشرق الأوسطي الذي تطغى على بناه السكانية الهويتان العربية (إثنيا) والاسلامية (دينيا) عامة. تخص هذه المسألة وظيفة المثقف الخطيرة في مهاده المعقد وهو المهاد الذي قد يضطلع بدور مقاوم، فهل يعفي هذا الاغتراب المثقف المحلي من التعريف والاضطلاع بدور اجتماعي ـ سياسي فاعل، بمعنى دور يصب في خدمة ذلك المهاد الاجتماعي المركب، الشعبي ـ الحكومي، برغم دور المهاد أعلاه عازلا للمثقف وللاستنارة التي يرنو إليها اجتماعيا.
لست أشك في أننا قد لاحظنا عبر القرن الماضي وتواصلا حتى اللحظة أعدادا لا بأس بها من المثقفين في الشرق الأوسط من هؤلاء الذين رفضوا الخنوع والاستكانة لإرادة مجتمع يباشرهم باستخفاف ودونية، من ذلك النوع الذي نوهنا إليه في عدة مناسبات سابقة، بيد أنهم، مع هذا كله، وخاصة في دول معينة، قد تشبثوا بأدوار ووظائف فكرية وثقافية بناءة، بسبب شعور وسواسي بـ"مسؤولية اجتماعية"، بمعنى ذلك الشعور القوي الذي يستخلص من الغطس والارتماس في مياه الإناء الاجتماعي على سبيل تتبع خطى الكاتب الفرنسي، الوجودي، "ألبير كامو" في نظرية "اللاانتماء". لاحظنا عبر العقود الستين الأخيرة أسماءً لامعة لمثقفين رفضوا الحال الراهنة، ثم قاوموا قوة الطرد الاجتماعي، التقليدي والسلطوي، إذ إنهم لم ينجرفوا بسلبية وبضعف في موجة اللاانتماء على سبيل مباشرة الانفلات من آنيتهم الاجتماعية نحو الخارج.
ولكن هذه الحال، وباعتبار ما أشرنا إليه من ميول سلطوية لاستخدام المثقف ديكورا، وليس "مرشدا" حقا، قادت أشكال السلطة في إقليمنا إلى استبدال قوة "الطرد المركزي"، إذا صح التعبير، بالاضطهاد المركزي، ومنه نحو الاستقطاب المركزي؛ حيث تم إيداع العديد من المثقفين من أصحاب الأقلام السيالة والعقول النيرة والأصوات العالية في غياهب السجون بسبب ممارستهم "حريات" تعد من "حقوق" المؤسسات الثقافية الرسمية فقط. لذا صارت هذه المؤسسات "الطعم" الذي يرمى في فضاء المثقف لاستدراجه إلى المصيدة، ثم لاستخدامه، أداةً لتبرير طرائق السلطة إلى الشعب، باعتبار الاحترام الذي تحظى به الثقافة من قبل الجمهور، برغم سذاجته، علما أن هذه النظرة الشائعة بين "العامة" لا تمثل عقدا بين المثقف وبين الجمهور: فالجمهور سرعان ما يتخلى عن المثقف ويتجاوزه عندما يكون الأخير في حال سيئة أو عندما يكون تهديدا لفئات من الجمهور، بدليل تغييب أعداد كبيرة من المثقفين في عالمنا الشرق أوسطي دون أن ينبس أحد من الجمهور ببنت شفة، على سبيل تكريس "الاغتراب" في منافٍ بعيدة، هناك في جزر غير مأهولة!