حاصل على جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي
التجربة الجمالية الفلسطينية من أبرز التجارب الفنية العربية التي قدَّمت الجسد بصورة بالغة التعبير
حوار ـ وحيد تاجا:
أكد الفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحيسن أننا بحاجة ماسَّة إلى إعادة النظر في وضعية فنوننا التشكيلية العربية الحديثة والرَّاهنة وتأهيل منجزاتنا الجمالية عبر مساءلة الفن والهوية بوعي بصري أكثر نضجاً وبمقاربات جديدة خلاَّقة ومبتكِرة، منفتحة وغير ضيّقة. ورأى في حوار شيق مع " أشرعة " "أن الفن التشكيلي «المغربي» مستلَب ومأخوذ عن المحترفات والمشاغل الأوروبية..كما أن البحث التشكيلي المغربي لا زال سطحيا ويعاني من عدم الاعتراف داخل البنية الثقافية الوطنية. وحول علاقة الشعر بالتشكيل قال إن الشعر والتشكيل يكاد كل منهما ينصهر داخل جسد الآخر لدرجة أصبح فيها الحديث عن قصيدة اللوحة أو لوحة القصيدة أمراً بَدَهيا لا وجود لأثر الشكِّ فيه.
ابراهيم الحَيْسن فنان وناقد تشكيلي يشغل حاليا مهام كاتب عام اتحاد كتاب المغرب ـ فرع العيون ، وله عدَّة مؤلفات ودراسات حول ثقافة الصحراء والفن التشكيلي والتربية الجمالية وحاصل على جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي ثلاث مرات سنوات: 2009 و2010 و2017 ....

* ـ بداية.. نبارك لك فوزك، للمرة الثالثة، بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في دورتها الأخيرة عن بحثك حول "التشكيل العربي الراهن وكارتوغرافيا الفن الجديد".. وإن أمكن الحديث عن فحوى الدراسة...؟
شكراً لكم.. يسعى البحث المذكور، عبر خمسة أقسام، إلى مقاربة المنجز التشكيلي العربي الرَّاهن في ضوء خرائط الفن الجديد مع الاستشهاد بنماذج فنية عربية -وإن كانت قليلة- استطاعت بجهود متباينة إثبات الذات والشخصية الإبداعية رغم محاولات الاستلاب Aliénation والوصاية البرَّانية التي تُمارسها مؤسسات سياسية/إيديولوجية واقتصادية عالمية، إلى جانب الحديث عن التشكيل والمدينة في التجربة الفنية العربية.
وقد تعزَّزت أقسام البحث بمقدِّمات تمهيدية ترسم السياقات الجمالية والتاريخية التي قعَّدت لهذا الفن الجديد وساهمت في ظهور وانتشار مجالاته المعروفة بفنون ما بعد الحداثة، كفن التنصيبات والإرساءات التشكيلية والمفاهيمية والواقعية الجديدة والمينيمال آرت وفن البيئة والأرض/ اللاند آرت وفن الحدث (الهابينينج) وفن الجسد وحركة الفلوكسس Fluxus والسبرانية واللاأسلوب..فضلاً عن الوسائطية وتوظيف التكنولوجيا والبرامج الحاسوبية في العملية الإبداعية.

*ـ بالتالي كيف ترى واقع ومآل الفن التشكيلي المعاصر في عالمنا العربي في ظل ما يشهده العالم من حركة إبداعية متسارعة ؟ وهل لا زالت تسمية الفن التشكيلي قابلة للتداول...؟
مَرَّ التشكيل العربي من ظروف ومراحل تأسيسية عديدة مليئة بالتذبذب والسعي لفرض الذات وتجاوز هاجس الحداثة الفنية والانخراط فيها بوعي بصري يقطع مع التأثر بفن الغرب وثقافته، فكان للفنانين العرب الرواد ومن جاء بعدهم نصيب وافر في إرساء دعائم الحركة التشكيلية العربية.
وازدادت هذه الوضعية تعقيداً مع الانتقال من الحداثة إلى المعاصرة بسبب عدم التهيؤ الكافي لهذا التحوُّل الذي فرضه الإيقاع السريع الذي يشهده الفن في العالم.
لذلك لم يكن سهلاً بروز بعض الأعمال التشكيلية العربية الحديثة والمعاصرة في ضوء الفن الرَّاهن بما أفرزه من تجارب وتيارات فنية طارئة قلبت موازين الفن وأعادت الأسئلة من جديد حول جدوى الفن اليوم..
هذه التجارب والتيارات كان لها مفعول الصدمة والتأثير الواضح على مسار التوجه التشكيلي في البلاد العربية، لاسيما في ظل وجود "هشاشة إبداعية" بسبب انعدام التأطير والتزوُّد بالمعرفة الفنية الكافية بيداغوجيّاً وأكاديميّاً، إلى جانب ضعف البنيات التحتية الفنية وغياب المشاريع الفنية الجادة داخل برامج سياساتنا ومخططاتنا الثقافية العربية بوجه عام.
يدعونا هذا الأمر إلى طرح الأسئلة التالية: متى يكون الفن في إبداعنا التشكيلي العربي الرَّاهن؟ بمعنى آخر، ما هي حدود رهان الفن لدينا؟ وما هو حضوره ووجوده حين يكون هناك بالفعل فن يعمل شيئاً، بتعبير غودمان Godmann؟..وكيف نجعل فنوننا التشكيلية الجديدة قادرة على المنافسة وسلب دهشة المتلقي، محليّاً كان أم أجنبيّاً؟
والحالة هاته، فإننا بحاجة ماسَّة إلى إعادة النظر في وضعية فنوننا التشكيلية العربية الحديثة والرَّاهنة وتأهيل منجزاتنا الجمالية عبر مساءلة الفن والهوية بوعي بصري أكثر نضجاً وبمقاربات جديدة خلاَّقة ومبتكِرة، منفتحة وغير ضيّقة، وأيضاً عبر التحفيز والرعاية وتوسيع مجالات البحث والتجريب والتفكير المتصل بشروط الحياة المعاصرة. غير أن تحقيق هذا المبتغى يظل، بدون شك، مشروطاً بالإجابة على الأسئلة الأولية التالية: - إلى أيِّ حَدٍّ يستطيع التشكيل العربي الرَّاهن الانسجام والتأقلم مع المجتمعات العصرية وما تشهده من ثورة معلوماتية ومن تبدُّلات متسارعة نتيجة الوسائل الاتصالية الحديثة المبتكرة؟ ما هو السبيل الأنجع لتطويع الوسائط التكنولوجية وتحويلها إلى إمكانات إبداعية وتعبيرية طيِّعة لتطوير منجزنا الفني والجمالي وتحريره من المفاهيم التقليدية للفن؟ ومتى سيستوعب التشكيليون العرب أهمية التزوُّد المعرفي والتقني المعاصر لتحصين الذات المبدعة والتطلع بيُسر نحو مستجدات العصر والاستفادة من روافده ومناهله العلمية الكثيرة والمتنوِّعة؟
تعني هذه الأسئلة في ما تعنيه، وكجواب على الشطر الثاني من السؤال، أن تعبير الفنون التشكيلية طارئ لدينا ولم يتزكى داخل قاموسنا الفني سوى خلال معرض السنتين العربي الأول المنظم سنة 1974 ببغداد. فصارت هذه التسمية، عقب ذلك، أوسع من السابق وشملت تعبيرات تشكيلية أخرى تتجاوز الخامات والمواد والسنائد المعهودة، لتشمل الجسد والصوت والصورة والإضاءة، وذلك بعد أن ظلت لردح من الزمن تعني فنون الشكل المشتقة من اللفظة اليونانية Plastikos للدلالة على التعبير بالشكل، أو فن صناعة النماذج والتماثيل.

* ـ يلاحظ إعادة طرح سؤال الهوية في الفن التشكيلي في كتابك "المنجز التشكيلي في المغرب- روافد وسمات"..أو في كتاب د. بوجمعة العوفي (التشكيل المغربي: أسئلة التجريب والهوية والأفق). السؤال: لماذا يُعاد طرح هذه المسألة من جديد، ومن خلال النقاد في المغرب العربي بشكل خاص، وكيف تنظر إلى مفهوم الهوية في زمن العولمة...؟
لأسباب تكاد تكون متشابهة، لا يزال المنجز التشكيلي في الأقطار العربية يطرح أسئلة مثل: الخصوصية، الهوية، الغربة والاغتراب، المحلية والعالمية، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، العصرنة والتحديث..إلى غير ذلك من الإشكالات التي فرّخها التحوّل من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة.
هذا الانشغال الإبداعي بسؤال الهوية، هو بالضبط ما سعت إليه "جماعة الفن الحديث" في بغداد و"جماعة البعد الواحد" التي أسماها مؤسسها الفنان التشكيلي العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد بـ"جماعة البُعد الواحد"، وأطلق عليها جميل حمودي تسمية "الفن يستلهم الحرف" والتي تُعّدُّ من الجماعات الفنية العربية الأولى التي رفعت شعار العودة إلى التراث الفني ودعت إلى ضرورة الانتباه إلى إمكانية الاستفادة من فنوننا الإسلامية.
ثمَّ هناك "جماعة الخيال" التي أسسها بمصر النحات الرائد محمود مختار والتي سعت بدورها إلى إثارة سؤال الهوية البصرية انطلاقاً من التمسك بالأصول والجذور الثقافية المؤسسة للشخصية العربية الإسلامية، و"مدرسة الخرطوم" التي كانت تهتم بصون الموروث البصري الوطني والجمع بين مكوّناته إلى جانب أساليب الرسم الأوروبي الحديث.
في المغرب، يمكن الحديث عن محاولة "جماعة 65" (أو جماعة الدار البيضاء) بخصوص مساءلة التراث الفني الاستعماري وتبنِّي خطاب الهوية والعودة إلى الجذور باعتماد أرضية بيداغوجية، حيث تمَّت البداية داخل مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بتفعيل الدرس البيداغوجي والانفتاح على الفنون الشعبية وإدماج الحِرف والصنائع والمشغولات اليدوية التقليدية في المنظومة التعليمية. وكان لهذا التحوُّل في تاريخ مدرسة الدار البيضاء ما يبرِّره، حيث كان المناخ الإبداعي العام ملائماً لبلورة هذه الأفكار. أما بالجزائر، فقد برزت بشكل لافت للنظر "جماعة أوشام" التي حاولت إعادة الاعتبار للزخارف الشعبية، ونفس الأمر ينسحب على "مدرسة تونس" التي تأسست خلال منتصف القرن الماضي على خلفية إيجاد رسم تونسي أصيل يتجه نحو إبراز الهوية وإثباتها من خلال الاشتغال على الموروث الوطني.
من رحم هذه الجماعات الفنية، خرج مبدعون تشكيليون عرب مشبعين برُوح عالية وبحماس وطني دفعهم إلى السعي لتأكيد الذات الوطنية، غير أن الطريقة التي قارب بها معظمهم الإشكالات والمفاهيم المذكورة ظلت حبيس هذه الشعور لسنوات، قبل ظهور أعمال تشكيلية جديدة منفتحة على التعبيرات المعاصرة، مثال على سبيل المثال لا الحصر تجربة الفنانة الفلسطينية منى حاطوم التي ارتبطت جلُّ إبداعاتها وأعمالها الفنية التركيبية بسؤال الهوية Identité الذي أثارته كثيراً عبر فنّها القائم بالأساس على البناء الإنشائي والنحت والفيديو والفوتوغرافيا..وغير ذلك من التعبيرات التشكيلية المعاصرة. وقد برزت الهوية في فنها ذي الطبيعة السردية من خلال العناصر والمفردات التعبيرية الأليفة المكوِّنة لها، كالكوفية والسجاد والسبحة وخريطة دولة فلسطين وغير ذلك من "أدوات الذاكرة" بتوصيف المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
* ـ إذا انتقلنا إلى الفن التشكيلي في المغرب..يرى البعض أنك ظلمت المشهد التشكيلي المغربي بقولك: "إن الفن التشكيلي «المغربي» في عموميته -أي مع استثناءات قليلة جدّاً- مستلَب ومأخوذ عن المحترفات والمشاغل الأوروبية..كما أن البحث التشكيلي المغربي لا زال سطحيا ويعاني من عدم الاعتراف داخل البنية الثقافية الوطنية"...؟
لا أعتقد أن رؤيتي حول التجربة التشكيلية في المغرب -وإن كانت موسومة بنوع من الصرامة النقدية إذا جاز التعبير- فيها نوع من "التظلم" كما ورد في السؤال، لأنها رؤية متصلة بواقع الممارسة الفنية المحلية في شموليتها وكذلك الظروف التي نشأت فيها، بحيث أن مجموعة من المعطيات الواقعية تقودنا إلى الاقتناع بأن التجربة التشكيلية في المغرب بوجه عام لا تزال فتية وتحتاج إلى المزيد من الجهد ومراكمة البحث والتجريب وتطوير سبل وصيغ الممارسة الفنية إن على مستوى الإنتاج التشكيلي، أو على مستوى الكتابة النقدية والمواكبة الإعلامية المتخصصة ودعم الدرس الجمالي بالمدرسة المغربية، فضلا عن الارتقاء بالمؤسسات والبنيات التحتية الثقافية المتصلة بالفعل الإبداعي التشكيلي، كقاعات العرض أو المراسم (المفتوحة والمشتركة) والمتاحف وغير ذلك كثير، لكن -طبعاً- دون أن نستثني الجهود الإبداعية التأسيسية التي قام بها فنانون رواد ومخضرمون، عصاميون ومتعلمون حملوا لواء البداية والحداثة الفنية، وهذا أمر مهم نقدره ونثمنه بطبيعة الحال.
مثلما تبرز لنا المعطيات كون مجموعة من التجارب التشكيلية المغربية، لاسيما منها ما ينتسب إلى بعض الفنانين الشباب، لا تغدو كونها امتدادا لتجارب فنية عالمية، أوروبية وأمريكية، لها مرجعياتها البصرية الخاصة وظروف نشأتها التي قعّدت لظهورها، وأخص بالذكر هنا الأعمال والتقنيات الصباغية والنحتية، إلى جانب التنصيبات Installations والإبداعات التركيبية والإنشائية ذات الجذور الغربية.
لكن، ومع ظهور بعض الفنانين المخضرمين إلى جانب آخرين ينتمون لجيل الثمانينات والتسعينات، شهد الفن التشكيلي المغربي منعطفا جماليا إيجابيا منحه بعض الدفء (المؤقت) بفعل الحيوية الإبداعية التي ميزتهم، لكن القاطرة التي كان يركبها هؤلاء الفنانون سرعان ما زاغت عن سكتها حيال بروز خلافات مجانية أفرزتها تكتلات جمعوية فاشلة وظرفية ظلت -مع الأسف الشديد- بعيدة عن رسالة الإبداع وارتبطت أصلا بتحقيق أغراض ومآرب شخصية!!، الأمر الذي أعاد التجربة التشكيلية المغربية كثيرا إلى الوراء..

* ـ يلجأ العديد من الفنانين التشكيليين في المغرب، كما في العالم العربي، إلى استخدام الخط في أعمالهم. سؤالي كيف تنظر إلى اللوحة الحروفية. وهل تراها فعلا: "ساذجة وفارغة من أي محتوى ثقافي وجمالي"؟
لست أدري إن كان كل من يقوم بتوظيف الحرف العربي..أو الكتابة العربية في لوحاته (أو منحوتاته، أو إرساءاته..) يُعتبر فنانا حروفيا؟
علينا إذن تحديد مواصفات هذه الأعمال الفنية المسمَّاة حروفية ومعرفة المعايير الإبداعية والتقنية الكفيلة بمنح هذه الصفة لهذا الفنان أو ذاك..أو لهذه التجربة أو تلك بمراعاة اختلاف الصيغ وأساليب المعالجة..
وعلينا أيضاً أن نتساءل متى وكيف دخلت اللوحة الحروفية العربية إلى نسيجنا الثقافي البصري، وماذا أضافت إلى منجزنا التشكيلي العربي خارج نطاق مسألة الهوية التي اعتبرها كثيرون مبرِّراً لازدهار اللوحة الكاليغرافية بعد أن سعى الفنانون الحروفيون عن طريقها إلى تأصيل الخطاب التشكيلي العربي رغم تأثيرات الفن الغربي الحديث وادعاءاته الكثيرة.
في التجربة التشكيلية المغربية، وعلى غرار تجارب عربية مماثلة، ثمة تجارب حروفية قائمة على توظيفات مجانية للحرف والكتابة العربية وغير مبنية على توليفات تشكيلية قوية في اللون والتركيب. لكن بالمقابل، هناك فنانون حروفيون محترفون طبعوا تجاربهم ومساراتهم الجمالية بأعمال حروفية بديعة تنهض على مهارات إبداعية متقدمة تجمع بين تطويع الحرف والتعبير التجريدي الحركي الممتد للجسد وإيماءاته، منهم على سبيل المثال عبد الله الحريري، عمر أفوس، حسن المقداد، حكيم غزالي، محمد بستان، نور الدين ضيف الله، العربي الشرقاوي..ومن الخطاطين المهرة، نذكر الفنانين محمد أمزيل ومحمد قرماد، وقبلهما الفنان الراحل محمد الجوهري..وغيرهم.
غير أن مجال فن الخط العربي والحروفية العربية سيتأثر لاحقاً بالتحوُّلات الإبداعية المتسارعة وبتأثير التكنولوجيا والمكننة على دور اليد في العملية الفنية، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل التالي: ما هو مستقبل فنُّ الخط العربي والحروفية العربية في ظل التصميم الرَّقمي الذي أحدث اليوم ثورة إبداعية كاسحة لا حدود لها في مجال الإخراج والبرمجيات الرَّقمية للفنون المرئية؟ وكيف يَنْظُرُ الخطاطون والحروفيون إلى هذه الثورة التي تسعى باستمرار إلى سَلْخِ طابع القدسية ونزعها عن هذا الفن الإسلامي الأصيل الذي ارتبط منذ نشأته بأبعاده الدينية والروحانية والوجدانية؟

*ـ برز في المغرب عدد كبير من الفنانين الفطريين أمثال محمد بن علي الرباطي ومحمد بن علال وفاطمة حسن وسعيد إيت يوسف والشعيبية طلال وفاطنة الكبوري..السؤال كيف يقيم النقد الفني التشكيلي الفنان الفطري (الساذج). وكيف ترى موقف الفنان التشكيلي محمد شبعة من الفن الفطري وتعامل الغرب معه...؟
يشهد تاريخ الفن في المغرب على أن الرسم الفطري لقي تشجيعاً أجنبيّاً رافقه تحفظ كثيرين إذ اعتبروه طمساً للحضارة المغربية وتذويباً لها وتخطيطاً ثقافيّاً استعماريّاً قدَّم المغرب في صورة بلد بدائي ينتج فنّاً ساذجاً ومنحطّاً Art dégénéré يقوم على الغرابة والتخلُّف مستدلين في ذلك بقصة أندريه مالرو A. Malraux مع أحمد الورديغي، المهندس سميثSmith مع عبد السلام بن العربي الفاسي، جاك أزيما J. Azéma مع محمد بن علال، بول بولز P. Bowles مع أحمد بن ادريس يعقوبي، غاستون دييل G. Diehl مع مولاي أحمد الإدريسي..إلخ. ويُعتبر غ. دييل من أبرز النقاد الغربيين الذين احتفوا بالفن الفطري وأحاطوه بالرِّعاية.
وبالفعل كان الفنان التشكيلي الراحل محمد شبعة من أبرز المبدعين المغاربة الذين تحدثوا بشكل مبكر عن "الاحتواء الأجنبي" للوحة الفطرية المغربية وتحويلها إلى مادة للتهكم والسخرية -بحسب موقفه- وقد ناهض ذلك (إبداعيّاً) في مناسبات كثيرة. كما أن الفنانين أحمد الشرقاوي وجيلالي الغرباوي -رائدا الحداثة الفنية في المغرب- أعلنا، وبصورة صريحة، قطيعتهما الإستتيقية مع الوعي الفني الكولونيالي ومع تكريسه للجماليات الشرقية واحتفائه بالفن الفطري.
لكن، خلافاً لذلك، هناك من اعتبر الدعم الأجنبي للفن الفطري عاديّاً، بل وإيجابيّاً أتاح إمكانيات كبيرة لفنانين مغاربة عصاميين للتعريف بفنهم داخل وخارج بلدهم.
إزاء هذا التضارب والاختلاف في الرؤى والمقاربات التي صاحبت ظهور "اللوحة الفطرية"، بَدَا أن الساحة الفنية المغربية آنذاك يقتسمها "تيار فطري" وآخر "تيار تجريدي"، مع اختلاف في الرؤية والمعالجة الإبداعية في تشكيل الوحة.
مع ملاحظة هي أن كثيرا من أعمال الرسامين العصاميين لم تكن ساذجة بالمعنى الذي سَوَّق له البعض. فتجربة الرسامة طلال الشعيبية على سبيل المثال كانت قوية واستثنائية وقد ساهم في اكتشاف موهبتها فنانون ونقاد عالميون، أبرزهم بيير غودبير P. Gaudibert مدير متحف الفن الحديث بباريس وباحث بالمركز الوطني للفن المعاصر (CNAC)..وغيره من نقاد الفن الأجانب الذين آمنوا بالتجربة الفنية في المغرب آنذاك.

*- ذهبت في كتابك "الشعري والتشكيلي/ المعايشة الجمالية بين اللفظي والمرئي" إلى أن الشعر والتشكيل يكاد كل منهما ينصهر داخل جسد الآخر لدرجة أصبح فيها الحديث عن قصيدة اللوحة..أو لوحة القصيدة أمراً بَدَهيا لا وجود لأثر الشكِّ فيه. وسؤالي: كيف يتمظهر ذلك داخل التجربة المشهدية والشعرية المغربية؟
يبرز الشعر والتشكيل كحقلين إبداعيين متفاعلين لدرجة يكاد كل منهما ينصهر داخل جسد الآخر، وذلك بفعل علاقات الالتقاء والتقارب الكثيرة التي ينهضان عليها..بل ويقومان على خطاب جمالي -ملفوظ ومرئي- يشتعل على الرمز والإشارة والاستعارة والتورية والمجاز..إلخ.
في التجربة المغربية، ثمة تجارب كثيرة ومتنوعة جسَّدت هذه الإستتيقا المتبادلة بين المصوِّرين والشعراء، نذكر منها مثالاً العمل المشترك بين الشاعر محمد بنيس والرسام العراقي ضياء العزاوي، والمتمثل في "كتاب الحب" الذي يُعَدُّ صياغة جديدة لكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي. ولم يتوقف العمل المشترك بين بنيس والعزاوي عند هذا الحد، بل امتد ليشمل تجربة "مجنون ليلى"-الكتاب والمعرض- المليئة بالحب والفن والإبداع..وفيها انطلق كل منهما في رسم/كتابة مجنونه.
ثم هناك "قبعة المثلث" للرسام الراحل عباس صلادي والشاعر عبد الله زريقة، وهي تجربة ظهرت في ضوئها نصوص زريقة الشعرية في شكل لغة واصفة (ميتالغة جديدة) تبحث عن المعنى من داخل العمل التشكيلي وليس من خارجه..وأيضاً ديوان: مقاربة للقاحل Approche du désertique، وهو ديوان باللغة الفرنسية اشترك في إنجازه الرسام الصويري حسين الميلودي بمجموعة من الرسوم السيريغرافية والشاعر المبدع مصطفى النيسابوري بقصيدة واحدة.
هذا إلى جانب اشتغال الفنان فريد بلكاهية مع الشاعرة نيكول دوبونتشارا التي أبدعت شعراً تعبيرياً في معرضه نور على نور المنظم في فبراير 1999 بقاعة المنار بالدار البيضاء. وقد سبق لهذه الشاعرة الفرنسية أن اشتغلت كذلك مع الرسام ابي الوقار الذي أنجز مجموعة من المحفورات Gravures على ورق فيلان من حجم مربع 24x24 سم، ضمَّت نصوصاً شعرية لبونتشارا، وقد أطلق على هذه التجربة اسم: "في الصمت".
فضلاً عن ديوان "الرياح البنية" Les vents ocres (2003) الذي اشترك في إنجازه كل من الشاعر حسن نجمي والفنان التشكيلي الراحل محمد القاسمي، وهو ديوان برز على ضوء رسائل متبادلة بينهما أثناء حرب الخليج الثانية، والذي ضمَّ العديد من التخطيطات الحبرية الانفعالية السريعة مصحوبة أحياناً بكتابة تعبيرية ومعبرة في آن، ونصوصاً شعرية إبداعية عاكسة لكوامن نفس مهزوزة وقلق ذاتي يخترق الاعتيادي..وغير هذه النماذج كثير.

* ـ في حديثك عن تيمة الجسد في اللوحة الفنية، اعتبرت أن التجربة الجمالية الفلسطينية من أبرز التجارب الفنية العربية التي قدَّمت الجسد في صورة بالغة التعبير. لماذا..وكيف تنظر إلى هذه المسألة بشكل عام...؟
لا شك أن التساؤلات كثيرة ومتشعبة حول توظيف الجسد في الإبداع التشكيلي العربي، وحول طريقة تعامل الفنان العربي مع الجسد في ظل مجموعة من الظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية المحلية المعقدة.
صلة بذلك، برز الجسد في الفن التشكيلي العربي خاضعاً لسُلطة الطابوهات والمحرَّمات التي تمارسها اللغة والمجتمع. لذلك أخذ هذا الجسد يتخذ أشكالاً رمزية قريبة من التجريد وبعيدة عن التشخيص، قبل أن يتحرَّر لاحقاً بوتيرة تدريجية ويبرز مكشوفاً..ظاهراً وعاريّاً إلا من الأعضاء الجنسية. ولعل التجربة الجمالية الفلسطينية -كمثال- تُعَدُّ من أبرز التجارب الفنية العربية التي قدَّمت الجسد في صورة بالغة التعبير، بالنظر إلى الظروف العصيبة التي عاشها ويعيشها الرسامون الفلسطينيون منذ أيام الاستعمار البريطاني في سنة 1917.
ورغم أن الجسد في التشكيل العربي ظل يرتبط جزئيّاً بعديد من المواقف والقضايا السياسية والاجتماعية، فقد أمسى يتصل بالقضايا التي عالجها بعض الفنانين العرب من موقع حضورهم الجغرافي ومواجهتهم اليومية التي تختلف من قطر لآخر. غير أنه خلال السنوات الأخيرة التي شهدت أثناءها جل الأقطار العربية هزَّات سياسية وانجارات شعبية غير مسبوقة، طفت على سطح الإبداع التشكيلي العربي إبداعات فنية مغايرة تناولت موضوع الجسد بصورة جريئة ومؤلمة تعكس حجم المعاناة والتهميش والاغتراب الداخلي..

*- سؤال أخير..طالبتم في ندوة تخصصية بتوحيد الخطاب النقدي التشكيلي العربي وإنجاز معجم تشكيلي عربي موحد.. ما مدى إمكانية تحقيق ذلك عمليا برأيك..وكيف تقيم هذا الخطاب بشكل عام ؟
لقد سبق لبعض نقاد الفن العرب أن طرحوا خلال مجموعة من الندوات التداولية والتخصُّصية مسألة توحيد الخطاب النقدي التشكيلي العربي لتجاوز العديد من المشاكل المتصلة بالتأويل والتلقي الجمالي من منظور علمي وثقافي مؤسَّس على مناهج وقواعد لغوية ولسنية متعارف بشأنها، سواء عن طريق إنجاز معجم تشكيلي عربي موحّد، أو بإنشاء مختبر أو معهد عربي للغات التشكيلية التي تتجدَّد باستمرار بفعل دينامية الإبداع والوسائط التعبيرية الكثيرة التي أضحى يقوم عليها الإنتاج التشكيلي الرَّاهن. ولابُدَّ من أن تنخرط في هذا المشروع المؤسسات التكوينية العليا المختصة في الفنون ونقاد الفن والمؤرِّخين وغيرهم. وقد أقيمت في هذا الصدد بعض المبادرات، لكنها لم تعمَّم بالشكل الكافي ولم تستفد منها سوى فئات قليلة للأسف الشديد.
بخصوص الشق الثاني من السؤال، يظل من الصعب تقييم الحركة النقدية التشكيلية العربية بسبب غياب الدراية الكافية لحصيلة هذه الحركة وتموُّجاتها عبر ربوع أرجاء الوطن العربي، وهي تظل في عموميتها مرتبطة بالمبادرات الفردية، مع استثناء بعض المبادرات المشتركة التي كان من ورائها نقاد عرب متمرِّسون سعوا كثيراً إلى تعزيز المكتبة الفنية العربية بإصدارات جماعية تتضمَّن أشغال الندوات والتوصيات المنبثقة عنها رغم إكراهات النشر ومحدودية التوزيع. ولكن، يُمكن القول - وهذا ليس تقييماً- بأن الخطاب النقدي التشكيلي العربي في غالبيته لا يزال بحاجة إلى تطوير أدواته ومناهجه مع وجود نقاد متخصَّصين يكتبون بحسٍّ إبداعي رصين وبأسلوب نقدي مؤسس على خبرة مجالية وافية، ينشط إلى جانبهم نقاد آخرون يكتبون عن الفن ومبدعيه من زوايا أدبية وفلسفية وغيرها.
النقد التشكيلي العربي بحاجة اليوم إلى تجاوز الاجتهادات الفردية والكدّ العصامي بخلق شعب ومسالك متخصِّصة بالجامعات والكليات والمعاهد الفنية، وأيضاً بخلق ودعم المزيد من المنابر الفنية (ورقية وإلكترونية) وإحداث جوائز تحفيزية. في هذا السياق، تظل جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي الجائزة الوحيدة الموجودة على المستوى العربي مع ما تحتاج إلى من شروط إضافية لتوسيع دائرة نطاقها وتطويرها على نحو أكثر فاعلية.
وفي تصوُّري الخاص، لا يُمكن للخطاب النقدي التشكيلي العربي أن يتجاوز حالات انطفائه في كثير من الأحيان سوى بخلق الشروط والبنيات المذكورة بما يُساهم كذلك في تطوير الإبداع، وهذا شرط آخر يقتضيه النقد نفسه ويُساهم في إنعاشه وازدهاره بكل تأكيد.