فـيـقـول الله تعالى في وصـف نعـيـم الجـنة بـقـوله تعالى: {فـيهـا عـين جـارية وسـرر مـرفـوعـة وأكـواب مـوضـوعـة، ونمـارق مصـفـوفـة وزرابي مـبثـوثـة} (سـورة الغاشـية ـ 12/16)، ذكـر الأسـّرة والأكـواب والنمـارق والـزرابي في سـورة الغـاشـية ، وذكـر هـنا في سـورة الطـور في الـجـنة ، وهي أجـمـل وأكـمـل ، عـلى الأسـرة المصـفـوفـة إلا مـن كان مـطـمئـن القـلـب هـانيء البال في الـدنيا ، لا يـخـاف مـرضـا ولا يخـشى ألـما ، ولا ضـيقـا ولا حـرجـا ولا مـوتا ولا هـرما ولا زوال الـنـعـمة أو نقـصانا منها ، وهـذا لا يجـود في الـدنيا مـطـلقا ، وهـذا ما يعــبر عـنه أصحـاب الجـنـة عـنـدما يـدخـلـون الجـنـة بقـولهـم:{أفـما نحـن بمـيــتين إلا مـوتـتنـا الأولى ومـا نحـن بمعـذبـين إن هـذا لـهـو الـفـوز العـظـيـم ، لمـثـل هـذا فـليعـمـل العـامـلـون } (سـورة الصـافات ـ 58/61).
ومـن المعـلـوم أن الـقـرآن الكـريـم إذا تحـدث عـن مـوضـوع مـن المـواضـيع ، فإنـه قــد يـذكـر جـزءا مـنه في آيـة ، و جـزءا آخـر في آيـة أخـرى ، وعـنـدما تجـمـع تـلك الآيـات إلى بعـضـها الـبعـض تـكـتمـل الصـورة ، قال الله تعالى : {متـكـئين عـلى سـرر مصـفـوفـة} (سـورة الطـور ـ 2.)، وقال أيـضا :{ونـزعـنا ما فـي صـدورهـم مـن غـل إخـوانا عـلى ســرر مـتـقـابـلـين} (سـورة الحجـر ـ 47.).
فـقـد ذكـر السـرر في الآيـتـين ، وهـذا هـو الـوصـف الـذي يجـمـع بينهـما ، إنه الالـتـقـاء والاتـكاء عـلى السـرر، فـقـولـه:{ مـتـكـئين عـلى سـرر مصـفـوفـة} يشـير إلى أن أهـل الجـنـة يجـتـمـعـون كـما يجـتمـع الإخـوان عـلى سـرر متـقـابـلين في الـدنيا ، تـارة عـنـد فـلان وتارة عـنـد فـلان، أو حـيثـما كان الاجـتماع، لأن مـن ألـذ النعـم عـلى الإنـسان في الـدنـيـا ، أن يجـتـمـع بإخــوان له أصـفـياء ليـس في قـلـوبهـم غــل ، يصـدقـونه الـود ، ولـقـد تـكلـم العـقـلاء والحـكـماء ، وأنـشـد الأدبـاء والشـعـراء في هـذه اللــذة والمـتعـة .
قال الشـاعـر :
ولـم يـبـق مـن اللــذات إلا أحـاديث الكـرام عـلى المــدام

هـذا هـو السـرور الحـقـيقـي للإنـسان ، وهـو أعـظـم مـن ســروره وهـو يجـمـع الأمـوال في مـتـجـره أو يجـني الثـمـار في حـقـله أو يـسـرح مـواشـيه في مـرعـاه ، لأن في كـل تلك الأعـمـال مشـقـة وتعــبا وكــبـدا ونصـبا ، ولـكـن النعـمـة العـظـمى والمـتعـة الكـبرى التي لا يـدركهـا إلا العـقـلاء والحـكـماء، هـي أن يجـتـمـع إخـوان أصـفـياء في مجـلس لـيس بينهـم تـباغـض ولا تـنافـر ولا حـقـد، ولا تـنافـس ولا تحـاسـد ، هـذه السـاعـات التي يـقـضـونهـا مـعـا هـي أجـمـل وأبـرك سـاعـات العـمـر ، لأن المـرء ينـسى فـيها كل أشـغـاله وأتعـابه ، وعـياله وخـدامه ، كـذلك هـذه النعـمـة تـكـون بـين أهـل الجـنـة في الآخـرة ، فـهـم في نفـوسـهـم فـكـهـون ، وهـم إخـوان عـلى ســـرر مـتقـابـلـين ، وهـم عـلى سـرر مـصـفـوفـة مـتكـئـون.
قال تعالى:{وزوجـناهـم بحـور عـين} ، هـذا الـوصـف يتـعـلـق بالمتعـة الجـنسية التي تكـون يـوم القـيامة ، وقـد ذكـر الله تعالى الحـور العـين في آيات كـثيرة مـن القـرآن الكـريـم، فإذا تـفـكـرنا العـذاب الألـيـم عـملـنا للنجـاة مـنه ، وإذا تـفـكـرنا النعـيم المقـيم عـمـلنا للـوصـول إليه ، جـعـلـنا الله تعالى مـن أهـل النـعـيـم المقـيـم .
قال الله تعالى: {والـذين آمنـوا واتبـعـهـم ذريـتهـم بإيمـان ألـحـقـنـا بهـم ذريتهـم ومـا ألتنـاهـم من عـمـلهـم مـن شـيء كل امـري ء بما كسـب رهـين} (سـورة الطـور ـ 21)، هـذا هـو القـسم الـرابع مـن أقـسام التكـريـم، الـذي أعـده الله تعالى لـعـبادة المـؤمنـين في الجـنـة بـدأه بقــوله:{والـذين آمنـوا واتبعـتهـم ذريتهـم بإيمـان} ، ألفاظ الآيـة صـريحـة واضحـة ، يفهـمها كل أحـد حـتى مـن كان لا يتـقـن اللغـة العـربية الفـصحى، فالـذين هـداهـم الله تعالى إلى الإيـمان فآمنـوا وصـدقـوا في إيـمانهـم ، وعـملـوا العـمـل الصالح ونـالـوا رضـوان الله ، وهـدى الله أبنـاءهـم فاتبعـوهـم في الإيـمان ، تـرى ماذا يـفعـل الله تعالى بأولـئـك الأولاد والـذريـة ؟
قال تعالى:{ ألحـقـنا بهـم ذريتهـم}، ألحـقـنا بهـم ذريتهـم في الـدرجـة والمقام وهـذا هـو أشـهـر التفاسـير، يـريـد الله تعالى أن يـقـول: إن الأولاد المتبعـين لآبائهـم في الإيـمان حـتى وإن قـصـروا عـن درجـة آبائهـم في الإيـمان والـدرجـة، فإن الله تعالى يـلحـقـهـم بـدرجـات آبائهـم يـوم القـيامة إكـراما لآبائهـم ، والمـؤمـنـون (كـما هـو معـلـوم) هـم درجـات عـنـد الله مـتـفـاوتـون بحـسب أعـمالهـم وإخـلاصهـم، هـم جـميـعا في الجـنـة ولـكـنهـم هـم فـيها درجـات بعـضها فـوق بـعـض ، وكلهـم راض بما أعـطاه الله لا يستـشـعـر نقـصا ولا يجـد في نفـسه حـرجـا أن تأخـر عـن فـلان أو لـم يـعـط مـثـل ما أعـطي فـلان ، لأن الله تعالى يـمـلأ قـلـوبهـم بالطـمـأنينـة والـرضـا فـيرضـون بما قـسمه لهـم ، كما قال:{رضي الله عـنهـم ورضـوا عـنه ذلك لمـن خـشي ربه} (سـورة البـينة ـ 8 ).
وقال تعالى : { ونـزعـنا مـا في قـلـوبهـم مـن غـل إخـوانا عـلى سـرر متـقـابلـين } سـورة الحجـر 47 ، لا كـما هـو الحـال في الـدنـيا ، اتي يـقـع بـين أهـلها تحاســد وتـباغـض إذا اخـتـلـفـت بينهـم الطـبـقات وتفـاوتـت الـدرجـات ، فالأدنى يحسـد الأعـلى والفـقـير يحـسـد الغـني ، وهـكـذا كل ذي نعـمـة محـسـود ، والله يـعـطي المحـسود رغـم حاسـديه ، وإذن : لما كان المـؤمنـون يتـفـاوتـون بحسـب أعـمالهـم درجات يـوم القـيامة ، فإن الله تعالى يـكـرم الصـادقـين المخـلصـين الـذين هـم في الـدرجـات العـليا ، بأن يـلحـق بهـم أولادهـم ذكـورا كانـوا أو إناثـا ، ولـو كانـت درجـتهـم بحـسـب أعـمالهـم أقـل مـن درجـة آبائهـم .
إن إكـرام الله تعالى المـؤمـنـين في الآخــرة بإلحـاق ذريتهـم بهـم ، كـإكـرام الأولاد في الـدنيا بصـلاح آبائهـم ، ومما يـؤيـده التفـسير ولـو بطـريـق العـكـس ما قال الله تعالى في قـصة الغـلامـين والجـدار: { وأمـأ الجـدار فـكان لغـلامـين يتيمين في المدينة وكان تحته كـنـزلهـما وكان أبـوهـما صالحا فأراد ربـك أن يـبلـغـا أشـدهـما ويـستخـرجـا كـنـزهـما رحـمة مـن ربـك (سـورة الكهـف ـ 82)، انـظـروا إلى هـذا الـتفـاعـل بـين الجانـبيـن.
قـصة الجـدار معـروفـة الـواردة ضـمـن قـصة مـوسى والخضـر عـليهـما السـلام التي ذكـرها الله تعالى في سـورة الكهـف، وهـذا الجـدار هـو الـذي قال الله تعالى فـيه: { فانـطـلقـا حتى إذا أتيا أهـل قـرية اسـتطـعـما أهـلها فأبـوا أن يـضـيفـوهـما فــوجـدا فـيها جـدارا يـريـد أن ينـقـض فأقامـه، قال لـو شـئت لاتخـذت عـليه أجـرا } (سـورة الكهـف ـ 77).
ولما جـاء الخـضر إلى التأويـل قال لمـوسى عـليه السلام:{وأما الجـدار فـكان لغـلامـين يتيمـين في المدينـة وكان تحـته كـنز لهما وكان أبـوهـما صالحا، فأراد ربـك أن يـبلـغـا أشـدهـما ويستخـرجـا كـنـزهـما رحـمة مـن ربـك، وما فـعـلـته عـن أمـري ذلك تأويـل ما لم تسـطـع عـليه صـبرا} (سـورة الكهـف ـ 82).
إنه يوجـد تحـت هـذا الجـدار الـذي أراد أن ينقـض، كـنـز لغـلامـين يتيمـين في المـدينة ، ولا يـطـلـق اليـتيـم إلا عـلى مـن كان دون الـبـلـوغ ، وكان الخـضـر يخـاف أن ينكـشـف أمـر الكـنـز إذا سـقـط الجـدار، فـيحـرم الغـلامان مـن كـنـزهـما ، ولـذا رأي أن إقـامـة الجـدار سـهـل عـلى الـيتيمـين العـثـور عـلى كـنـزهـما إذا كـبـرا، ولـكـن لما فـعـل الخـضـر هـذا ؟، ذلك لأن أباهـما كان صـالحـا ، وهـنا محـل النكـتة ، وهـذه شـهـادة الله تعالى في كـتابه لهـذا الأب فالله تعالى أ راد ( إكـراما لـوالـد الغـلامـين الصالح ، وإكـراما لهـذين الغـلامـين اللـذين سـيـتبـعـان أباهـما في الصـلاح ) أن يحـفـظ لهما كـنـزهـما حـتى يكـبرا ، ويـبلـغا أشـدهـما وينـتـفـعـان به ، وما أكـرمهـما هـذا الإكـرام إلا بسـبب صـلاح الـوالـد ، فـلنا في هـذا عـبرة لمـن يـعـتبر.
فالله تعالى أكـرم الـولـديـن بـسبب صـلاح الـوالـد مـن جهـة، ومـن جهـة أخـرى أكـرم الـوالـد بإلحـاق أولاده المـؤمـنـين به ، وفي هـذا إكـرام للأولاد أنفـسهـم كـذلك بأن رفـع درجـتهـم ، لـقـد أكــرم الله تعالى الأولاد المـؤمـنين الصالحـين بإدخـالهـم الجـنـة ، ولـكـن لمـا كانـوا دون درجـة آبائهـم في الجـنـة، لأن أعـمالهـم لـم تبـلـغ بهـم درجـة آبائهـم، ولما كان الآباء يـرغـبـون أن يـكـون أولادهـم معـهـم ، فإن الله تعالى يـرفـع درجـة الأولاد حـتى يكـونـوا مـع آبائهـم إكمالا للنـعـمة وإتمـاما للـرحـمة ، فالله تعالى يـدخـل الجـنـة بالعـمـل ، ويـزيـد مـن فـضـله ما يشـاء كما قال:{للـذين أحـسنـوا الحـسنى وزيادة} (سـورة يونس ـ 26).
وللحـديث بقـية.