[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fawzy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]فوزي رمضان
صحفي مصري[/author]
” إذا كنت شغوفا بالأحداث ومتلهفا على الأخبار، ستجد ضالتك لتعيش الحدث وقت حدوثه، من أكثر من مصدر مع الكثير من الرأي والتحليل، كذلك إذا كانت وجهتك التسلية والألعاب والموسيقى أو الأفلام، بالتأكيد ستلبي شغفك، مع كثافة المعروض وبأكثر من تقنية، ستتابع أعمالك وتنجز مشاريعك وتدير تجارتك، وتقوم بمهام وظيفتك وأنت خلف تلك الشاشة الصغيرة . ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو كان شاعر الحكمة أبو الطيب المتنبي يعيش عصرنا، ولم يشاهد كتابا قط في يد شخص سوى طلبة العلم وإلى حين، ولو شاهد آلاف البشر في زحام المعارض يهرولون لاقتناء الكتب، كي تزين أرفف المكتبات وتلون جدران المنازل ، ولوعلم أيضا أن جليسه المفعم بالخير، استبدل بجهاز لايتعدى حجمه كف اليد الواحدة، تفوق بجدارة على الكتاب، وبات يشكل عالما بأكمله، ودنيا مكتظة بكل مغريات العصر ، وأعتقد أن شاعرنا حتما سيعدل من بيت شعره الشهير :
أعزُ مكانِ في الدُنا سرجُ سابحِ
وخيرُ جليسِ في الزمانِ كتابُ
في بحث خفيف الظل أجرته بعض البوابات الإلكترونية، وكان السؤال المطروح للمناقشة (ماهو خير جليس في هذا الزمان؟) وكانت الإجابات غير تقليدية، وبعد تصنيفها وترتيبها جاء في المركز الثاني، مقعد الحمام طبقا لما يسميه البعض بيت الراحة، المركز التالي جاء المخبر أو العميل السري لإخلاصه في الاستماع إلى الآخرين، وتوالت الإجابات من المحارم الورقية، إلى المقعد وصولا إلى شاطئ البحر، وكانت المفاجأة المذهلة أن احتل الكتاب المركز الـ 58 ، متقدما عليه أشياء غاية التفاهة والعبث.
والمفاجأة الأكثر حضورا، وأجمعت عليها معظم الأجوبة، واحتل المركز الأول بجدارة واستحقاق كان الهاتف النقال، الذي تغلغل في أدمغة معظم البشر، وهب نفسك وسط أسرتك أو بين زملاء عملك ، أو مع أصدقائك ستلاحظ أن تلك الآلة صغيرة الحجم متناهية الاستخدام ، تستحوذ اهتمامات الجميع وتأخذهم إلى عوالم تأسرهم وتهيمن عليهم ، وتسلخهم عن واقعهم وتغيبهم عن المحيطين بهم، في شبه الخدر أو الغيبوبة.
إنه كمثل مصباح علاء الدين السحري ، الذي يطلق المارد بحكة على هيكله لتنطلق قهقهته المدوية ، مع دخانه الكثيف ، صارخا شبيك لبيك عبدك مابين يديك ، والآن وبلمسة حانية بلا دخان وبلاضجيج ، تجد مئات الشبيك وآلاف اللبيك ، وستجد السلوى إذا كنت مغتربا عن أحبابك، أو بعيدا عن معارفك ستتواصل معهم صوتا وصورة، وتتابعهم بالدقيقة والثانية وبعد أن سلطت كاميرات الهواتف على الأحباب، هل تكون هناك غربة ولونشطت برامج الواتس أب والفيبر وسكايب وتانجو، فهل تكون هناك فرقة، أو يصعب التواصل والترابط بين البشر.
إذا كنت شغوفا بالأحداث ومتلهفا على الأخبار، ستجد ضالتك لتعيش الحدث وقت حدوثه، من أكثر من مصدر مع الكثير من الرأي والتحليل، كذلك إذا كانت وجهتك التسلية والألعاب والموسيقى أو الأفلام، بالتأكيد ستلبي شغفك، مع كثافة المعروض وبأكثر من تقنية، ستتابع أعمالك وتنجز مشاريعك وتدير تجارتك، وتقوم بمهام وظيفتك وأنت خلف تلك الشاشة الصغيرة .
هذا الجهاز الذي انتزع الكتاب من يديك ليحل هو محله، ويتربع على كفيك، أسرا عينيك ومسترقا أذنيك، لم يترك لك المجال كي تترحم على الكتاب، بل قدمه وأتاحه وعرضه لك، وبالمجان لتجد مئات المواقع تدعوك لزيارتها لترشف من رحيق عناوينها، وترتوي من عصير كتبها، نعم إنه الشبيك وإنه اللبيك، أحلم ماذا تريد وماذا ترغب، ودائما تحت الطلب والخدمة للجميع ، طفلا كان أم شابا رجلا كان أم امرأة، مراهقا كان أم عجوزا .
لست بصدد التقليل من قامة الكتاب وتقزيمه، كونه منبعا للعلم ومصدرا للثقافة، لكنه الواقع المحتم ، فقد اتجه العلم الحديث إلى تطبيق ثقافة تخصص التخصص، وهو أن تفهم المجال وتتخصص في جزئية منه غاية التخصص، ليس مهما أن تكون عباس محمود العقاد وتصبح موسوعة متحركة، وليس مطلوبا أن تعلم وتفهم في كل شيء، ففي مجال العلوم الإنسانية آلاف التخصصات، وكل فرع مختلف عن الآخر، في الطب مثلا هناك كلية للأسنان فقط وبداخلها 20تخصصا في هذا التخصص.
لا ترم التهم على الأجيال الصاعدة، وتنعتهم بضحالة الثقافة، أبدًا هم أكثر معرفة وعلما ودراية بعصرهم وينشدون العلم والتخصص، فقد أجاد ابنى اللغات الأجنبية، وحل الأمور المعقدة عن طريق ألعاب الفيديو، إذا لكل عصر وسيلته في العلم والثقافة، فلا أجدادنا كانوا عباقرة ولا أولادنا الآن جهلة، وقارن نتاج حضارة الأقدمين والحضارة المعاشة، ذهول مابعده ذهول، لو علم عنها أجدادنا، لوصفوها بأنها رجس من عمل الشيطان .
ولاخلاف... إذا كان الكتاب التقليدي هو خير جليس للمتنبي، وأنتج عن طريقه الحكمة وبلاغة القول، وعبقرية العبارة وصحيح اللغة ومفاتيح العلم، فلا ضرر أن يكون كتاب أولادنا الآن هو الهاتف النقال، والذي عن طريقه تراكم لديهم مكنون من المعرفة والعلم وثقافة زمانهم، وأصبحوا عن طريقه أيضا مؤهلين للتعامل مع أدوات ومستحدثات العصر، المعرفة واحدة فقط تختلف الوسيلة.