[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
” لقد أصبحت القوة العدوانية الغشوم ، وأصبح منطقها ، وتوحشها، وممارساتها، وحروبها، وقواعدها، وقوانيها، وأهدافها، وكل ما فيها من ظاهر وباطن .. جائحات تترى، وأعاصير نارية، تفتك بالبشر، وتحرق الأرض ، وتفسّخ المجتمعات والأفراد ، وتُفسد الوجدان الفردي والجمعي ، وتشوه الحقائق والوقائع ، وتَستَنبِت الفساد والإفساد والكذب والافتراء، الانتهازية والخوف، حتى الخوف من طلب الحياة أفسدته ولجمته ..”
ـــــــــــــــــــــــــ

في الإلياذة، رائعة هوميروس الخالدة، التي ترجمها إلى العربية شعراً، أو قل "نظماً"، سليمان بن خطار بن سلوم بن نادر البستاني، "٢٢ أيار/مايو ١٨٥٦ -١ تموز/يونيو ١٩٢٥"، ابن قرية بكتشين، إحدى قرى إقليم الخروب، في لبنان.. ونشرها عام ١٩٠٤، بعد أن قضى عشرين سنة في ترجمتها عن الأصل اليوناني، وفي كتابة حواشيها، والتعليق عليها، وتقديم أعلامها، ومقارنة وقائع وعادات وشخصيات وبطولات وتعابير، مما جاء فيها، مع ما يشابهها، أو يقاربها، أو يتضاد معها في حياتنا العربية وشعرنا.. وبذل في ذلك جهداً فذاً، يدل على معرفة موسوعية.. ووضع منهجاً علمياً لذلك النوع من الأعمال العملاقة، ما أظن أن أحداً سبقه إليه، ولا أظن أن أحداً من اللاحقين أتى بمثله، كما لا أظن أن هناك من استفاد من منهجه وعمل عليه ليكرسه مدرسة، ويستلهمه باتباع وإبداع.
في الإلياذة، وعلى ساحل بحر إيجه، في سهول طروادة، ما يقابل مدينة إزمير حالياً.. جرت حرب ضروس، دامت عشر سنوات من القتال والحصار، من الكر والفر، بين الإغريق بجموعهم والطرواديين ومناصريهم.. حرب سببها امرأة.. هي "هلين أو هيلانا"، زوجة "مينيلاوس"الإغريقي، تلك التي أحبها الجميل، "بارس بن الملك بِريام"، الطّروادي، وأغواها، واختطفها، ومعها كنوزها.
في تلك الحرب، التي انتهت بتدمير طروادة، وبسبي من تبقى من أهلها.. نتيجة خدعة، تُعرف حتى اليوم بـ "حصان طروادة"، ذاك التمثال لحصان ضخم ، أقامه الإغريق قبالة حصن المدينة وأبوابها .. وخفية ، وضعوا فيه أربعين مسلحاً أو يزيد، وأوهموا الطرواديين بأنهم يغادرون، عاجزين عن اقتحام حصون طروادة، وعن استعادة "هلين"، وتحقيق النصر.. فقام المسلحون المستودعون في التمثال ، "الحصان"، بمغافلة الحراس ، وفتحوا أبواب طروادة لجيش الإغريق ، الذي دخلها ودمرها وسباها.
هناك.. كانت تختصم الآلهة، ذكوراً وإناثاً، وتتقاتل بالبشر وبأنصاف الآلهة، وتحرّض على سفك الدم، وتخوض المعارك متخفية بلبوس بشر، أو من خلال مقرَّبين، و"كلاء"، توحي لهم ما يفعلون.. وكل ذلك يجرى تحت سمع كبير الآلهة "زِفس، أو زيوس"، القابع في قمة جبل الأولمب.. وكلّ من تلك الآلهة، التي تنصر حلف الإغريق، أو حلف الطرواديين.. تستعدي كبير الآلهة، أو تشكوا إليه، وتحرص على أن تنصر فريقها.. وفي الليل، عندما يخيم الظلام، ويتوقف القتال، تجتمع تلك الآلهة، في مجمع كبيرها، وتأكل، وتفرح، وتلهو.. إذ لا خصام، ولا كلام عن القتال.. فهم فوق، وبنو البشر تحت.
بعد ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، من حرب طروادة تلك، أو حرب آلهة الأولمب بالبشر.. وبعد أن تقدم البشر كثيراً، وكثيراً جداً، مادياً وروحيا، علمياً وتقنياً.. وبعد أن تخلصوا من عبادة الآلهة التي تضمَّنتها تلك الميثيولوجيا القديمة وأشباهها، ومن الأصنام والأوثان وأنصابها وأشيائها، وألقوا أضغاثها بعيداً عنهم.. واهتدوا، أو قالوا بأنهم اهتدوا، بالرسل، وأخذوا بدين التوحيد، وبحقيقة الله الواحد، الخالق البارئ المصوّر، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى، وقدَّر فهدى.. وجعل الناس سواسية، وأمر بالحق والعدل، ونهى عن الشر والقتل، وأعلى شأن القيم الخيِّرة، والأخلاق الحميدة، والسِّيَرة الحسنة.. بعد هذا، وبعد الادعاء العريض بالأخذ به، بل بالإيمان به.. مَرَقَ بشرٌ من كل الشرائع الخيرة، ومن الإيمان الحق بالله الواحد الأحد.. وعلوا علواً كبيرا، وشكلوا نوعاً من ميثيولوجيا جديدة، هم أربابها وسدنتها، ربما حنيناً منهم لتلك الميثولوجيا القديمة، وإلى أولمب من نوع خاص؟!حيث أصبحت لهم ميثيولوجيا تصنع الأقدار، وتقرر المصائر، وذات مخالب وأنياب نووية، إنها ميثلوجيا"سياسية، أيديولوجية، عنصرية، مالية، عسكرية، أمنية، فتّاكة.. و.. و.. إلى آخر ما شئت أو ما تشاء، من تسميات وتوصيفات وتصنيفات.. وحافظت على عدوانية نوعية جبارة، من جهة، وعلى "وئام أولمبي"أخَّذ، من جهة أخرى.. فامتطى أولئك "الأرباب"متن الفضاء الرحب كله، مشكلين "أولمباً"كونياً عالياً، ومتخذين أخداناً، وأصفياء، ووكلاء، ومقربين أولياء أوفياء، ذكوراً وإناثاً.. وأخذوا يخوضون حرباً بالبشر، على البشر، في أرض البشر، حيث يَشْقَعُ من ذلك الفضاء الدم والرعب والبؤس، فيغمر الخلق.. وكلما زاد الشقاء، وسالت الدماء، و"ثَغَى"الناس ثُغاء الغَنَم.. زاد استمتاعهم بالذبح، والتدمير والقهر.. فيستمتعون بعد كارثة، ويستعدّون لأخرى أشدَّ هولاً منها.. ولا تعوزهم الذرائع، ولا تنقصهم الخدعُ.. وأسوار عالم البشر الفقراء الطيبين البسطاء.. مفتوحة أمامهم، من جميع الجهات، وفي كل الاتجاهات.
لقد تجاوزوا اليوم الفتك بالسلاح التقليدي، و"بالنووي العتيق".. فناجازاكي وهيروشيما، أناشيد حربية قديمة، بل جدُّ قديمة. والحربان العالميتان، وما تلاهما من حروب على الشعوب في آسيا وإفريقيا، وفي وطن العرب الذي قُسِّم إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقية، خلال القرن العشرين.. كل ذلك لا يضفي الفرح الكافي لدى ممتطي متن الفضاء، في ذاك الأولمب الكوني الذي يشقَع موتاً.. فمجمع آلهة اليوم، تجاوز التفكير بالضربة النووية الاستراتيجية القوية المحدَّدة، التي كانت تُدرَج في خيار منتهى الضرورات الدفاعية، وربما فما تسميته بـ:"خيار شمشون، عليّ وعلى أعدائي يارب"، لتصبح الخيارات: صواريخ أو قذائف نووية، تستخدم في المعارك بصورة طبيعية، بدلاً من القذائف العادية بأنواعها.. فهي أفتك بالبشر، وأكثر نشراً للدمار والرعب. والصواريخ العابرة للقارات، التي تستخدِم الوقود العادي بأنواعه، سائل وجامد، أخذ يحل محلها صواريخ بوقود نووي، والطائرات التي لا تكشفها الرادارات "أو "المتملِّصة"كما يسمونها، أخذت تحل محل الطائرات الحربية التي يمكن كشفها، وبدلاً من سرعة تعادل سرعة الصوت، بدأ تصنيع ما سرعته ستة أو سبعة أمثال سرعة الصوت… وقس على هذا المقاس.. فيا لسعادتنا نحن البشر،إن أساليب التقل تتقدم ، وبدلاً من دفن القتلى هناك تفحُّم الأجساد.. ولمَ لا .. فالبشر يكثرون ، وآلهة الميثيولوجيا النووية الجديدة متعطشون للقتل والنصر ، ولا يشفي غليلهم "العادي من الأمور"، ولا بد من أن تقدم لهم عجول بشرية كثيرة، في ولائمهم العليائية ، ليكون الفرح الكبير، ساعة الصفاء الأكبر، حين يضمهم "الأولمب الكوني"، أو الفضائي الشامل.
هل علينا أن نحزن أم أن نطرب، نغني أم نرقص مذبوحين من الألم.. نحن الذين لا نملك من أمرنا شيئاً، ونُقاد للحروب والمهالك ، أو تقصدنا الحروب والمهالك، ونحن في الكهوف الأرضية العميقة ، نهرب من الموت إلى حياة .. أيِّ نوع من حياة؟!
لا أستطيع الجزم بشيئ، فآلهة "الميثيولوجيا الكونية -النووية"يقررون، ونحن كما يبدو بوضوح نعوم على سطح "ديمقراطيتهم العادلة"، بلا صوت، ولا حركة.. خوفاً خوفاً، ويأساً يأساً.. لأننا نعيش التفرق، وأشكال الفساد الذي نشروه فينا.. وأراني هنا واحداً من الذين يتمزقون وهم يرتجف كريش في مهب الريح، حين يرون الأطفال يُقتَلون، ويُنتَشلون من تحت الأنقاض، وحين يرونهم جَرحى، أو جَوعى، أو مَرضى، أو مشردين.. يتضورون بين أيدي من تبقَّى لهم من ذويهم، وتسيل على أطرافهم أو بأكنافهم، دموع أولئك الذين تبقَّى لديهم حسٌّ إنساني سليم، ينتفض حين يرى بؤس الإنسان، ويحتج على قتل البراءة، ويشعر بالقهر من عجزه عن أن يفعل شيئاً مجدياً منقذاً، يوقف المأساة أو يخفف من وقعها على الناس؟!.
لقد أفقدتنا القوةُ العمياء، والنزعةُ العدوانية المتوحشة الهوجاء، والمفاهيم العقيمة المجردة من كل بعد روحي - ثقافي، ومن كل قيمة إنسانية، ولمسة أخلاقية.. أفقدتنا قدرتنا على التفكير والتدبير، والتحرك الذي يمليه العقل ويوجبه الضمير، وحجَّمت فينا القدرة حتى على التعبير، إن لم تكن قد أخمدَت نار الحرف المقدسة، وغضب الكلمة الساطع .. لقد أصبحت القوة العدوانية الغشوم، وأصبح منطقها، وتوحشها، وممارساتها، وحروبها، وقواعدها، وقوانيها، وأهدافها، وكل ما فيها من ظاهر وباطن .. جائحات تترى، وأعاصير نارية، تفتك بالبشر، وتحرق الأرض، وتفسّخ المجتمعات والأفراد، وتُفسد الوجدان الفردي والجمعي، وتشوه الحقائق والوقائع، وتَستَنبِت الفساد والإفساد والكذب والافتراء، الانتهازية والخوف، حتى الخوف من طلب الحياة أفسدته ولجمته .. وأصبح "أرباب"تلك القوة النوعية الجديدة، أصبح سدَنة "الميثيولوجيا الكونية النووية الفتَّاكة"، أصبحوا هم الرعبَ يسعى في الأرض، والموتَ ينتشر فيها، وأصبحوا سبب انعدامَ البعد الأخلاقي والإنساني، الذي يجرد الثقافة من دورها وقدراتها وأدواتها ونظافتها وشجاعتها، ويفقدها روادها، أو يلاحق ذا النفع والقيمة منهم، بأشكال عدة، ليلتحق بهم أو ينتهي على أيديهم .. وهم يلجمون الإيمان واللسان والبيان، وكل ما من شأنه أن يدافع عن حق الإنسان في العيش الكريم، والحرية المسؤولة، وعن حقه في المشاركة الفعلية، بكل ما يتصل بمصيره، وبتكوينه، وانتمائه، وتفكيره، وبما ينعكس عليه من قرارات تتصل بالموت والحياة.
فيا "أرباب"الميثيولوجيا الفتاكة، ويا سدَنتها الخُلَّص .. اتركوا فضاءكم العلوي، فضاء القوة النزقة، والعجرفة الفتاكة.. وانزلوا إلى الأرض، أرض البشر، أرض الشعوب، أرض الأجيال التي تتطلع إلى الحياة بأمل .. أقيموا "أولمبكم"في الأرض، واقتربوا من الناس، كما "زيوس"رب الأولمب، وآلهة الميثولوجيا القديمة .. تعالوا انظروا إلى الحياة بعمق، ومسؤولية .. لتروا كم أفسدتم علينا السماء والأرض معاً.. انزلوا إلى الأرض، وإذا كان لا بد لكم من أن تتقاتلوا حتى الموت، بصورة مباشرة وغير مباشرة.. فتقاتلوا بالسيوف والرماح، بالقوس والترس، بالفأس والبلطة.. عودوا إلى العَربة والحصان والجمل والفيل، وإلى غير ذلك من أسلحة وأدوات ووسائل ومواجهات .. هذا إذا كان لا بد من حرب، وأنتم تدمنون الحرب ، وتشتهون الدم المُهراق ، وتنتشون إذ ترون البؤس البشري، وتتخيلونه "بأثواب من حرير"، يترنح لابسوها فوق حقول الشوك في البوادي والقفار.. انزلوا إلى أرض البشر، إلى واقع الناس، وتواجهوا جيوشاً، واتركوا المدنيين الطيبين، والأطفال الصغار، والنساء، والعَجزة.. اتركوهم أحياء، يرقبون وحشيتكم الفردية، ويشفقون عليكم، ويبكون قهراً، أو يهتفون فخراً.. حينما يرون "الأبطال"يتعاركون في سوح النزال .. أعيدوا إلينا الحروب القديمة، أرونا حرب طروادة وأمثالها مما هو أكثر من كثير .. أرونا أخيل، وأغاممنون، هكتور، وإياس من أبطال حرب طروادة.. الزير سالم، وذياب بن غانم.. عنترة وأمثاله من أبطال الماضي الذين خلدتهم الملاحم.. أعيدونا إلى حروب ما قبل الإبادة النووية، حروب يتقاتل فيها ذوو الشهوة للقتال، وذوو النزوع لرؤية الدم يسيل، والرؤوس تكرج ملوثة بالتراب.. خوضوا حروبكم بأنفسكم، ومع أتباعكم، شأن "أرباب"الميثيولوجيا القديمة.. خوضها وحدكم أيها التعساء.. لا تحرقوا المدن والقرى والناس، ولا تهدموا البيوت على رؤوس ساكنيها.. ودعوا فرصة لمن يريد الحياة، ولمن يريد أن يبتعد عن الحرب والقتل والفتك والدم، ويعيش بغير أسلوبكم وحروبكم.. فكما أنه من حقكم أن تختاروا، من الآخرين المغايرين لكم، من حقهم أن يختاروا أيضاً، فاتركوا لهم حقهم ذاك.. اقتنعوا، ولو للحظة، أنكم بشر، ولستم فوق البشر، ولستم "آلهة ميثولوجيا جديدة، فاسدة مفسدة، وقاتلة متوحشة.. و.. و..".
لقد عرفتم الله، أو عرفه جيل من آبائكم وأجدادكم.. فاتركوا للبشر المؤمنين، المسالمين، الطيبين، الصابرين.. اتركوا لهم إلههم، ولا تدمروا معتقداتهم، وقيمهم، وثقافاتهم، وحضاراتهم، وكل آمالهم في الحياة.
فهل إلى ذلك من سبيل يا ترى، أم أنكم ستبقون في فضائكم العلي، في "أولمبكم الكوني النووي"، تفصلكم سنوات ضوئية، عن الإنسان، والله، والحق، والعدل، والضمير.؟!
لا نتوقع جواباً.. ففي ما شهدناه، وما نشهده.. جواب.