السبت 9 ديسمبر 2023 م - ٢٥ جمادى الأولى١٤٤٥ هـ
الرئيسية / أشرعة / حفرٌ في رواية موشكا

حفرٌ في رواية موشكا

نسق المعتقد الثقافي في رواية موشكا ( 2 )
دراسة ـ فهد بن مبارك الحجري :
من خلال الجدول التالي (المنشور) سوف نتناول حكاية موشكا في الرواية على ثلاثة مستويات في مقارنة مع شجرة المرّ المتحولة في الأسطورة اليونانية: من خلال الجدول الذي تم تقسيمه إلى ثلاثة مستويات فإن الأحداث في المستوى الأول متصلة بموشكا، عندما ارتكبت الخطيئة وحبلت في السفينة أثناء الطوفان، ثم تُحاكم لتتحول إلى شجرة لبان، بعد التحول ومن خلال السرد في الرواية يختفي الحمل؛ أما المستوى الثاني فيتعلق بابنة ملك قبرص، الفتاة الجميلة التي حبلت سفاحاً، لتتحول بعد ذلك إلى شجرة مرّ ينمو داخل هذه الشجرة الإله، لكن المستوى الثالث هو إسقاط الأسطورة اليونانية على حكاية موشكا، حيث كل ما مرّ بابنة ملك قبرص مرّ على موشكا ، ليفترق في مرحلة بعد التحول إلى شجرة، حيث شجرة المرّ نما فيها الإله، بينما شجرة اللبان لم يظهر الحمل، لكنه تحول إلى فصوص لبان، ليصبح مقدساً وحاضراً في المعابد، ليتحول إلى طقس حيث الإله، ليلتقيا في مكان مقدّس؛ لذلك نلاحظ في الحوار الذي دار بين عاملين في منازل اللبان ما يؤكد أن اللبان مثل الإله :
“قال الذي أدخل غليونه في المحفظة: سيُحرق في الأماكن المقدسة في كنائس فلسطين أو في مساجد مكة، أو ربما في المعابد الهندية، اللبان مثل الإله مقدسا عند كل الأديان(12)”.
لذلك من صفة الشجرة المتحولة أنها الواهبة التي تهب الحياة، وبالتالي اصبحت شجرة اللبان المتموقعة في وادي أوفير واهبة الحياة السكان، وبخورها المقدس طارداً الشياطين، وسائلها محافظاً على أجساد الموتى في معتقد الخلود بعد الموت لدى الفراعنة؛ كل هذا أعطى شجرة اللبان ذلك البعد الأسطوري الذي من خلاله كانت حاضرة بفصوصها وبخورها في الأماكن المقدسة، لذلك نجد موشكا تقول عندما خيّرها قومها في طريقة للتكفير عن ذنب الخطيئة تقول :
“أختار أن أطرد من عالمكم إلى عالم الإنسيين، لا أريد أن أدنس عالمكم الصامت ولا أريد العيش في عالم الإنس المخادع، سأطهر ذاتي سأكون شجرة لا تنبت إلا في أشد المناطق حرارة وجفافا، وأن يضرب جسدي في كل الأوقات بالمُدي والسكاكين عقابا لي على ما اقترفته، وأن تكون دموعي ودمائي محصولاً يطعم الفقراء والمحتاجين، ويسعون إلى تجميعه بكشط بشرتي مراراً وتكرارا، وأن يحرق إنتاجي تقرباً للآلهة في المعابد والأديرة(13)”.
إن فكرة التحول إلى شجرة كان مرجعها الأساس اعتقادياً، وتوظيفها في الرواية قادنا إلى إدراك أهمية شجرة اللبان .
“عبد الإنسان الأول روح الغاب ممثلة في الشجرة، ولم تكن عبادته موجهة نحو الشجرة في ذاتها بل نحو الروح الكامنة فيها، ثم بدأت عشتار تخرج من الشجرة في شكلها الإنساني الجميل، فحفرت على الجذع وصارت تعبد شجرة وشكلاً إنسانياً مصوراً، ثم غادرت الشجرة تاركة محراب الغابة الصغيرة ، وحلّت في التماثيل الرخامية التي تتصدر معابد المدن الضخمة (14)”.
“كان جذع الشجرة لدى الكنعانيين ينصب في محراب الأم الكبرى عستاروت أو (( عشتاروت )) وتقدم له فروض العبادة باعتباره تجسيداً لآلهة الطبيعة (15)”.
عندما تحولت موشكا إلى شجرة لبان تم إرسال صفّار الثعابين الطائرة معها، لحمايتها من كل مخرب ومضر، وهذا يلتقي مع معتقدات الشرق الأدنى القديم، حيث “خلّد فن الشرق الأدنى القديم عشتار الشجرة، من خلال معالجته موضوع شجرة الحياة التي تظهرها الأعمال التشكيلية بشكل زخرفي تبسيطي جميل، وعن يمينها ويسارها مخلوقات خرافية، تحرسها آناً، وتتعهدها بالسقاية والرعاية آنا آخر(16) “.
إن القداسة التي اكتسبتها منازل اللبان كان سببها تحول موشكا الأنثى إلى شجرة لبان، هذه الشجرة التي خلقت لهذا المكان هيبته، وتبع قداسة المكان مجموعة من المحرمات التي لا يجب ممارستها، لكنها إذا وطِأت مكاناً غيره اصبحت مباحة، وهذا يتضح عندما حاول الدعن مداعبة زوجته في منازل اللبان:
” كان الدعن يقترب من وجه حلوت، يطبع قبلة مكتومة بين شفتين أحرقهما دخان التمباك، يمسح بباطن يده على (…) من برودة الليل، يدفن وجهه عند منزلق النحر، ينتشي برائحة اللبان المنبعثة من الجسد الناضح بالرغبة والعرق معا(17)”.
– ” اشتقت لك ، يهمّ الدعن برفع ستائر اللبس ، فَتَنْهَره حلوت .
– نحن في منازل اللبان ، أنسيت ؟!! .
– طيب لماذا نُحْرَم من متعتنا ؟!(18)”.
“قالت حلوت : إنها موشكا يا بعلي، وضمته إلى نفسها وهدهدته كطفل ساعة النوم(19) “.
ثم يعود الدعن مرة أخرة بعد ليلتين ليسأل زوجته :
– “متى ستتحدثين عن موشكا التي لا أعرف لم تحرمني من رغباتي ؟!
– ومن قال أنني لا أريدك الآن ؟! لكنها موشكا .. قالت حلوت .
– ما الضرر لو فعلناها كأي زوجين في الحياة ؟
– هل تستطيع تحمّل الوِزر ؟
– تحملت خسارة تجارتي وفقدان مكانتي، ولا أتحمل مداعبة زوجتي؟!! (20)”
“الخسارة الظاهرة يمكن تعويضها، لكن من الذي يمحي الذنوب والخطايا المؤدية إلى التهلكة أو العذاب المقيم ؟! (21)”.
– “الضياع واحد وطعمه واحد ورائحته واحدة، وإن اختلفت المسميات بين الفقدان والخسران .
– لا أريد ارتكاب جريمة الغواية كما فعلت موشكا (22) “.
إذن، فقد اكتسب المكان قداسته بسبب موشكا، التي روحها حاضرة في المنازل المحرمة على من يرتكب الجرم فيها ، موشكا هذه الشجرة التي طلبت أن تكون في مكان شديد الحرارة والجفاف ليكون عصيّاً على من ينتهك حرمة شجرة اللبان 🙁 .. “سأكون شجرة لا تنبت إلا في أشد المناطق حرارة وجفافاً (23) “،.. )
إن عملية الانتقال من المكان المقدس (منازل اللبان)، حيث جامعي اللبان، إلى المكان المدنس أو العادي، المدينة ، يكون عبر عتبة، هذه العتبة تمثل المرحلة الانتقالية بين المكانين، إنها تدشين لمكانين مختلفين في طريقة التعامل، بحيث أن منازل اللبان تحمل تلك الصفة المؤبدة زمنياً، بينما المدينة هي التاريخ نفسه، والمكان العادي المدنس الذي يحق فيه فعل ما لا يمكن فعله في منازل اللبان المحرمة، هذه العتبة هي الحزام الأخضر من الغابات الفاصلة منازل اللبان في الصحراء القاحلة شديدة الحرارة حيث المقدس، عن المدينة الساحلية حيث الحياة العادية بزمنها العادي، لتبقى منازل اللبان حيث جامعي اللبان المكان الأكثر هيبة بعوالمه السحرية والأسطورية وقداساته ومحرماته.

تدور دراستنا للمعتقد، كما جاءت في الرواية، حول الدائرة الميثولوجية؛ فإذا ما أخذنا جانبا من المعتقد في موشكا أمكن تقسيمه إلى عدة أقسام: فهناك معتقد اجتماعي متطور عن حكاية موشكا ومنازل اللبان، وهناك معتقد في المعتقد وهو الطوفان وسفينة نوح، وهناك معتقد في معتقد المعتقد وهي الكائنات التي تمّ حملها في السفينة، وهناك معتقد رابع وهو صلاح الكائنات الخالي من لوثة الخطيئة، لذلك هذه المعتقدات الأربعة تتناسل من موقعها الكائن، منطلقة منه منذ البدء إلى البيئة النقية الصالحة غير المحتفية بالخطيئة، وصولاً إلى البيئة الحالية التي لا تزال تحتفظ بمنازل اللبان، واستمرار تجريح وكشط شجرة اللبان للتكفير عن الخطيئة، هذه المعتقدات المركبة المتناسلة مرجعها الأساس هم العمّال في منازل اللبان، إذ أن حكاية موشكا لم يعرفها إلا هم في البدء، ومنهم انطلقت إلى الآخر، ذلك الآخر القاطن خارج منازل اللبان، حيث المقدس، هؤلاء العمّال أخذنا منهم كل الحكايات والأساطير والأحداث، وبالتالي فإن نسق المعتقد يرتكز عليهم؛ حيث الناقة المقدسة التي لولاها لما وصل اللبان إلى المدينة، ولما استطاعت الاحتياجات والأشياء التي احتاجها جامعو اللبان الوصول إلى منازل اللبان، لذلك كانت الناقة بالنسبة إليهم خارج دائرة الحيوان العادي، لقد اكتسبت صفتها المقدسة من أهميتها بالنسبة لإنسان المكان، ومن خلالهم نسجت حكاية موشكا في السفينة، حيث تراكبت الخطيئة؛ الخطيئة الأولى التي تسببت بالطوفان، وخطيئة موشكا أثناء الطوفان، ثم تحول منازل اللبان إلى مكان مقدس، لأن موشكا حاضرة على هيئة شجرة لُبان.
إن حلُوت وزوجها الدعن أصبحا يمثلان الجزء المهم من نسق المعتقد في الرواية، حيث أخذت حكاية موشكا شكلها المتكامل من خلال حلوت، ثم اضفى شكلها على منازل اللبان هيبته وقداسته؛ حيث موشكا الشجرة المقدسة حاضرة بروحها، وحيث المحرمات التي سوف تلطّخ المكان بالخطيئة، فلا مجال لتكرار الخطيئة، كما أكدتها حلُوت عند تعاملها مع سلوك زوجها، وبالتالي فإن قداسة منازل اللبان تُعْرَف إلّا عن طريق حلُوت، أما الدعن فقد أخذ الجانب الآخر عندما بدأ الحكي عن بعل صعب وأخته فرجة، لتكون الحكاية الذكورية المضادة لحكاية حلّوت حول موشكا الأنثى التي أغواها الرجل، ليصبح صراعاً بين الأنوثة والذكورة، وليظهر الإله الذكري سين إله الديانة القمرية ليُنقذ بعل صعب مما أصابه عند خيانة أخته فُرجة له، وهو الذي انقذها من الموت، وضحّى بحياته من أجلها، لينقذه الإله سين في نهاية المطاف، وكل ما كان قد حدث في المدينة كان على لسان جامعي اللبان، من هنا، فإن جامعي اللبان، ومن خلال مفهوميّ الخطيئة والقربان، كانا حاضرين بقوة من خلال السرد، واللذَين تشكل حولهما المعتقد في الرواية عبر هؤلاء العمّال.

– الوظيفة النسقية للمعتقد:
من خلال ملاحظة تحركات موشكا الأنثى عبر الرواية، يتكشف لنا أن هناك صراعاً داخلياً مضمراً يدور بينها كأنثى وبين الرجل، الذي – عبر التتالي السردي- يؤكد حضوره المتصدر المشهد كله.
لم يكن لموشكا بدّ من الخضوع لقرار الرجل المتمثل في الدعن زوج حلوت، ومجلس المحكمة، ومن تدخل في عقاب موشكا على الخطيئة، وأنشرون الذي هرب وترك موشكا لمصيرها، ليتحول كل هذا إلى انعكاس صورة الرجل في المرأة، لتصبح المرأة منسلخة من أنوثتها، ومنذ البداية رصدنا موشكا التي عانت من الذكر الذي سلبها أعز ما تملك، ليُلبسها صورته المنبثقة من السيطرة على الجانب الفطري فيها، ألا وهو الأنوثة الواهبة العطوف حتى على من ظلمها ، لترجع لها أنوثتها مرة أخرى بعد معاقبتها بسبب الخطيئة، التي هي صورة الذكر، إنها الخطيئة الذكرية التي لامست كيان موشكا الأنثى، ولم تعترف بالرجل مرتكبها ( أنشرون )، لتعاقب جراء ذلك ولا تطاله العقوبة.
إذن، يكشف الحكي بين جانبي حلوت والدعن في أن كل منهما يدافع عن جنسه، لنجد حلوت متمثلة في موشكا التي جردها الرجل من أنوثتها بسبب تسلطه والسيطرة عليها لتفقد نفسها الأنثى، لكنها تستعيدها عندما تتحول إلى شجرة لبان حيث تعمّ المكان القداسة، وكما قالت حلوت:
“سأمضي كما مضى الأولون مِنّا، لكني أريد أن أعيش بكل قواي الأنثوية، امرأة من نور ونوار، راضية مرضية، عاشقة للجمال المشوب بالسمو(24)”.
وتقول موشكا لقومها الذين يحاكمونها:
“كنت معكم في الخن ذاته يوم كان همّكم الحفاظ على الإحراز، كنت على مقربة منكم حين كانت نجاتكم أولى من طهارتي، وكنت بينكم في المضارب حين كان التنافس بينكم على أشده للحصول على صكوك الكهانة(25)”.
ثم يأتي الدعن ليدافع عن الرجل، حين بدأ يحكي عن بعل صعب، وكيف قام بإنقاذ أخته فرجة من الموت، لتخونه في النهاية، وتهرب مع عشيقها ابن المدينة، لكنه ينتصر في النهاية لفحولته التي سُلبت بسب أخته فرجة، ولصورة الرجل التي تنتهي بانتصاره، وبالتالي نلاحظ أن المعتقد الاجتماعي يتصدر المشهد، لتكون حلوت وموشكا في ضفة الأنوثة، والدعن وبعل صعب في ضفة الذكورة، هذا الصراع الخفي المختبئ خلف النسق الجمالي للرواية يضمر نسقاً اخر، ألا وهو صراع اجتماعي، يتمظهر خلف نسق القيم الاجتماعية والعرف، ويخفي جدله بين المرأة وصورة الرجل فيها .
إن الخطيئة التي اقترفتها موشكا مخاتلة ؛ لقد أخذت وظيفة الجسر لعبور موشكا إلى الطهر، عندما تحولت إلى شجرة لبان، ذلك اللبان الطاهر المقدس الذي لا تمر طقوس المعابد إلا من خلاله ليطهر المكان برائحته الكونية، هذا اللبان الذي طهّر أيوب وشفاه من مرضه، وهو الذي طهر موشكا من الخطيئة، ومن زاوية أخرى تقودنا خطيئة موشكا إلى منازل اللبان ، لنستنتج أن الخطيئة لها وظيفتان: الأولى تؤدي إلى أن اللبان يعني الطهر الذي يعتبر تكفيراً لكل خطيئة بشرية، والثانية وظيفتها الاجتماعية مرتبطة بالعرف وطريقة التطهر، لذلك فإن الخطيئة في الرواية هي إحالة من وظيفتها في المعتقدين الاجتماعي والديني، إلى أهمية اللبان الذي عرفته الشعوب، من خلال حرقه في المعابد، ويقودنا هذا التوظيف المكثف للمعتقدات في الرواية إحاليّاً إلى اللُبان الذي اكتسب أهمية في كثير من الطقوس التعبدية القديمة، والتي اكسبت المكان في ظفار من جنوب عُمان أهمية عبر التاريخ، وعبر مدينة سمهرم التاريخية ومن مينائها يتم تصديره إلى المعابد والكنائس في الشمال.
لقد ارتبطت الإبل مكانياً بالإنسان وتطورت معتقداته عن الناقة، حيث أنها اكتسبت أهمية بالغة قديماً من شدة ارتباطها ووفائها بالإنسان في شبه الجزيرة العربية، ولذلك يحيلنا السرد في الرواية إلى أهمية الناقة المقدسة قديماً في المكان؛ وفي الرواية نجد أنشرون يحاور موشكا متحدثاً عن الناقة :
“الترحال ليس خياراً نمارسه متى نشاء، بل هو طقس تحدده الإبل أناشيد السير وعناوين الظعون، أما نحن فنتبع الإبل أينما يممت أفئدتها، نحمل أشياءنا ونتفقد الأرض، يتعرف كل منّا على الآخر نحن والأمكنة، فبيننا وبينها ألفة أو شيء من قبيل المحبة ، ونحن لا نرحل إلا إلى الاماكن البكر المخضّرة، أما حين تَقشِع الأشجار ويصفرّ وجه التعربة، وتذبل الأوراق تتساقط لتتذروها الرياح، وعندما يغشانا الضجر ويملؤنا السأم، فنرحل إلى أماكن أخرى خضيرة، لنستهلك نضارتها واخضرارها، بعد أن نقضي عليها نتركها تنتظر رحمة الماء، ونرحل عنها إلى أرض أخرى عامرة بالأشجار والشجريات والجنبات، وهكذا دواليك على مدار العام، تداولنا نوقنا على منازل المناخات والنجوم والفصول المختلفة، التي نلتقي بها وتلتقي بنا، إلى حين ينبثق الحنين صوراً وحكايات وذكرى لأصحاب كانوا معنا ثم تركونا لوجه ووجع الغياب، رحلوا عنّا إلى العالم المستور والجهة المجهولة من الخلق(26)”.
يضيف أنشرون :
“لا يذكّرنا المكان بالإنسان فحسب، بل يحرضنا على تذكر إبلنا النافقة التي تسوقها إلينا المبارك والمعاطن خيالات من سير التلبيث، فننظر إلى ناقة كانت ترضع صغيرها أو كانت شقفاً(27)”. ثم يردّ أنشرون على سؤال موشكا عن فترة استئناس الإبل وكيف حصل عليها الإنس :
– “تلك قصة أخرى، لكن ما نتداوله عن وجود الإبل في حياتنا وظهورها الأول يعود إلى ما يقال حول قصة ابن الشنجحي، الذي رأى في المنام ما يتراءى للباصر من وقائع وأحدث تتداخل فيما بينهما إلى حد التصديق، إلى العتبات التي لا يصلها الشك أو يبلغها الريب، حين يصدّق الفؤاد ما يرى، هذا ما رآه ابن الشنجحي في المنام؛ إذ أبصر حيواناً يمشي على أربع قوائم يرعى الأعشاب ويقتات من وريقات الأجمات .فسأل في الحلم: ما الذي أراه ؟فقيل له: ناقة من الإبل النجائب العيس من بنات البيداء، يُركب ظهرها ويؤكل لحمها ويُشرب حليبها ، مطيعة لصاحبها وفيّة لمن أكرمها(28)”.
بعد أن استمعت موشكا إلى حديث أنشرون أخبرته أن الإنس قد اختطفوا الإبل من أهل الخفاء بسبب امرأة حاولت الحصول على حليب الناقة لتقدم أباها قرباً كي تحصل عليها، ليتحقق ذلك، وحيث تحكي موشكا:
“عندها قررت المرأة الإنسية الحصول على ناقة مهما بلغت التكلفة ومهما عظمت التضحية، المهم الحصول عليها، في سبيل ذلك استخدمت كل ما لديها من حيل وخداع، وفي كل مرة تشعر أن فعلتها مكشوفة، وأن بني يشوف لن يعطوا ناقة في مقابل أشياء مادية تعوض بماديات مثلها، فأرشدها خبثها ودهاؤها الممزوج بالمكر، إلى تقديم حياة إنسان مقابل الحصول على الناقة، فاختارت في من تقدمه قرباناً على مذبح التملك(29)”.
ثم نجد أحد الجمّالة الذين ينقلون اللُبان إلى المدينة ويجلبون معهم الطعام للعمّال في منازل اللبان، نجده يرفض أن يزيد حمولة اللبان على الإبل عندما طلب منه ذلك مسؤول العمّال في منازل اللبان رافضاً المكسب المادي الذي سوف يستفيده:
“من قال لك إننا نساومك على السعر، أنت لا تفهم قيمة الجمل عندنا ، وربما لا تعي مكانة الناقة لدينا، نحن لا نخون دوابنا، بل نقدمها على أنفسنا أحياناً، فلا نشرب الماء قبلها حتى وإن بلغ بنا العطش حدّه، لا نرهق نوقنا أكثر من طاقتها، نحن والجِمال رفاق الطريق وعلى الرفيق احترام رفيقه، ومعاملته معاملة تليق برفاق الدرب وشركاء الديار ، ألم تسمع المثل القائل ” أغسل خُف ناقتك ثم اشرب غسالتها(30)”.

– جغرافية المعتقد:
إن الجغرافيا التي انطلقت منها المعتقدات في الرواية عبارة عن شبكة متفرعة من بؤرة مركزية وهي ظفار، وبالتحديد من منازل اللبان ومدينة سمهرم بمينائها، والمنطقة الخضراء في الجبال، وأخيراً المنطقة الساحلية، منطلقة إلى الجغرافيات الأخرى التي تتصل بجغرافية ظفار من خلال علاقتها بتجارة اللبان، ثم ارتباط ظفار بالمعتقدات التي سادت في جنوب الجزيرة العربية، وهذا ما أشارت إليه الرواية، وما سنوضحه في الصفحات القادمة .
منازل اللبان هو الموقع الرئيسي الذي فتحنا على العوالم الأخرى والجغرافيات الأخرى التي ارتبطت باللبان والطقوس والأساطير والمعبودات، وذلك من خلال عمّال المنازل بمتخيّلهم حول كل الجغرافيات التي ارتبطوا بها عبر اللبان ، والطرق التي سلكتها الإبل ذهابا إيابا بين منازل اللبان والمدينة الساحلية .

الجغرافيات التي وردت في الرواية مهمة للدراسة بحكم ارتباطها الوثيق بالمعتقدات التي جاءت في الرواية، لذلك سوف نوضح الأماكن والمواقع كلها التي جاءت في الرواية بهدف فهم ارتباطها بموضوع المعتقد من خلال التحليل الذي سوف يعقب ذكر هذا المواقع من خلال الجدول المرفق. من خلال هذا الجدول يمكن ملاحظة التالي:
– أن الجغرافيات التي ركّزت عليها الرواية والمرتبطة بمواقع عبادة الآلهة أربع جغرافيات وهي : بلاد الرافدين ( مدينة أور) ، جنوب الجزيرة العربية بما فيها ظفار ، البتراء – تدمر، مصر.
– أكثر المواقع ذكراً في الرواية هي مصر لتعدد الآلهة في معابدها.
– جاء ذكر هذه الجغرافيات في الرواية لارتباطها باللبان .
– أهم العبادات التي انتشرت في شبه الجزيرة العربية هي عبادة الثالوث المقدس ( القمر، الشمس، الزهرة ) .
اضافة إلى ما ذكرناه سابقا، فقد جاء في الرواية ذكر صريح للأماكن المقدسة التي استعملت البخور في أماكن عبادتها؛ والجدول التالي يوضح ذلك مع ذكر رقم الصفحات التي جاءت فيها (في الشكل المرفق).
إذن، نستنتج مما سبق أن هذه الإحالة إلى كل هذ المواقع، وسرد الآلهة التي عُبدت فيها ومواقع أماكن العبادة، هو إحالة إلى ظفار؛ حيث وجود اللبان الذي ارتبط تاريخيا بتلك الآلهة، حيث تحركت القوافل المحملة باللُبان برّاً إلى الشمال عبر الطريق الساحلي على البحر الأحمر المؤدي إلى مراكز العبادة في شمال الجزيرة العربية، أو بحراً إلى مناطق مختلفة من بقاع الأرض؛ ليكون اللُبان هو سبب كل هذا التعدد في الرواية سواء للمواقع المختلفة، أو الآلهة المتعددة.
عالم الرواية مليء بالأماكن والأزمنة المُتَخَيَّلة بشخصياتها وأحداثها المتفاعلة، كل هذا يحيلنا إلى رؤية ما تبغي الرواية منّا أن نُدركه ونفهمه؛ من هنا وجدنا رواية موشكا بكل هذا التوظيف لكل تلك الجغرافيات يقودنا إلى أهمية موقع منازل اللبان، وإلى أهمية مدينة وميناء سمهرم، بمعنى آخر يقودنا إلى تسليط الضوء على مركزية ظفار بالنسبة لكل تلك العوالم المُتَخَيَّلة في العالم القديم، بحيث يشترك الأسطوري والمُتَخيل مع التاريخي، ليخرج بعوالم عجائبية بكل جغرافياتها وأزمنة حدوثها .
كانت موشكا السبب وراء كل هذه العوالم العجائبية التي جاءت في الرواية، عندما دخلتها الحيرة في معرفة أو فهم أصل حكايتها، لتكون موشكا انزياحاً لأرض ظفار ونشأتها الأولى:

“احتارت موشكا في التعرف على أصل حكايتها، فلا تدري هل هي قَدَرية الخلق، أما أن قصتها قد فُصّلت في اليوم السابع بعد تكوير الأرض، حين صارت الكائنات تلملم جزئياتها المتناثرة من غبار التكوين، وتخلق تحالفات بين الأقران المتجانسة من ذرات الأشياء(31)”.

“ترددت في تحديد الواقعة، لكنها تجزم أن ما حدث لها قد قُدر بعد اكتمال هيئة الإنسان الذي بدأ مطيعا صامتا مذهولا من اختلاف المكان وبدايات الزمان(32)”.
وقد حيره الفلق الأول من سطوع الشمس التي ظن أنها ستحرقه، إلى اقشعرار بدنه من ظلمة الليل التي غشته في الحيرة غير المسبوقة لكائن بدأ يتحسس كل شيء من حوله(33)”.
“وقد بدأ المخلوق بتلمس أطرافه، مندهشاً من الأحجار والأشجار، والسماء الزرقاء والأرض المستكينة من دوامة الدوران، لابسة حلتها المكتسبة من عذرية الهُيولى وبكارتها الأولى(34)”.
“كانت الأرض كذلك تتحسس ما عليها وما في جوفها من الموجودات، التي ما لبثت أن تنافرت في الاتجاهات الأربعة في شقاق أزلي أحدثه الكره الباطني والغضب التكويني(35)”.
“وحين ضاق الداخل بما فيه، بحث عن مكان في الخارج يُنَفّس فيه آلامه وعذاباته، فتصاعدت الحمم البركانية من نار تلظى(36)”.
“تعمق الخلاف العائلي ولم يجد من يصلحه أو يوفّق بين أطرافه ، فحدثت الزلازل والبراكين التي أدمت الأرض وأحزن السماء التي صبّت دموعها على

البسيطة أنهاراً وبحيرات لا تجفّ ولا تتبخر(37)”.
بعد كل هذه الأحداث تدخل الرواية في عوالم الطوفان وأحداثه وكائناته، وبعد النجاة نجد أن هناك سفناً أخرى تحمل كائنات أخرى خلال أحداث الطوفان.
لقد تطرقت الرواية إلى وصف لمدينة سمهرم التاريخية بكل تفاصيلها التي صوّرت لنا الحياة وشكل المدينة والناس:

“عاد الشاب المعجب بفُرجة وحيداً، بعد أيام من مجيئه مع رفاقه إلى منبع النهر، والذي ستكشف الأيام قربه وصداقته من ابن الوزير في بلاط الحاكم في المدينى المحصّنة، والمخطوط على جدرانها بخط المسند الجنوبي، بداية تشكيل المدينة والدولة التي عمرت كثيراً عند تجار اللبان ومشتريه، وصار مرفأها مقصداً للسفن والمراكب الحاملة للمحصول المجتبى من الشجرة الواهبة سائلها للمحتاجين وطالبي القوت والحياة(38)”.
كما ذكرنا سابقا فإن كل هذه الجغرافيات المتخيلة وغيرها في الرواية، هدفها إحالة إلى التاريخ والجغرافيا في ظفار، منبثقة من مُتَخيَل إنسان المكان، ومن خلال هذا الإنسان الذي يعمل في منازل اللبان ويجمع فصوص اللبان انطلقت منه كل هذه الجغرافيات التي تدور دائما وأبداً حول موشكا.

المصادر والمراجع :

(1) الماجدي، خزعل: متون سومر (الكتاب الأول: التاريخ، الميثولوجيا، اللاهوت، الطقوس)، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، لبنان، 1998 م، ص 291.
(2) إلياد، ميرسيا: أسطورة العود الأبدي، ترجمة: نهاد خياطة، ط1، دار طلا للدراسات والترجمة والنشر، دمشق ، 1987 م . ص 70 .
(3) المرجع ذاته ، ص 70 – 71 . بتصرف .
(4) المرجع ذاته ، ص 71 .
(5) المرجع ذاته، ص71.
(6)إلياد، ميرسيا: أسطورة العود الأبدي، ص71، بتصرف .
(7) المرجع ذاته، ص71 .
(8) الشحري، محمد: رواية موشكا، ط1، بيروت – لبنان، دار سؤال ؟، 2015.ص97.
(9) إلياد، ميرسيا: أسطورة العود الأبدي ، ترجمة : نهاد خياطة ، ط1 ، دار طلا للدراسات والترجمة والنشر، دمشق ، 1987 م .
(10)الشحري، محمد: رواية موشكا، ص9.
(11) السوّاح، فراس : لغز عشتار ( الألوهية المؤنثة وأصل الدين والأسطورة ) ، ط8 ، دمشق ، دار علاء الدين ، 2002 . ص 110 .
(12)الشحري، محمد: رواية موشكا، ص20.
(13)الشحري، محمد: رواية موشكا، ص97.
(14) السوّاح، فراس، لغز عشتار ( الألوهية المؤنثة وأصل الدين والأسطورة )، ص110 .
(15) المرجع ذاته، ص 112 .
(16) السوّاح، فراس، لغز عشتار ( الألوهية المؤنثة وأصل الدين والأسطورة )، ص 114.
(17) الشحري، محمد: رواية موشكا، ص64.
(18) المرجع ذاته، ص64.
(19) المرجع ذاته، ص64.
(20) الشحري، محمد: رواية موشكا، ص86.
(21) المرجع ذاته، ص86.
(22) المرجع ذاته، ص87.
(23) المرجع ذاته، ص97.
(24) الشحري، محمد: رواية موشكا، ص24.
(25)الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص95.
(26) الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص 44- 45.
(27)الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص 45.
(28) المرجع ذاته، ص 47-48.
(29) الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص51.
(30) المرجع ذاته، ص67-68.
(31) الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص32.
(32)المرجع ذاته، ص32.
(33) الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص 32.
(34) المرجع ذاته، ص32.
(35) المرجع ذاته، ص33.
(36) المرجع ذاته، ص33.
(37) المرجع ذاته، ص33.
(38)الشحري، محمد: رواية موشكا ، ص108.

إلى الأعلى
Copy link
Powered by Social Snap