[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
شكل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب موافقته على إجراء محادثات مع كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية مفاجأة للمراقبين السياسيين والعسكريين، خصوصًا وأن الإعلان يأتي بعد تصعيد غير مسبوق وصل إلى درجة أن كلًّا من ترامب وكيم أخذ يتباهى بما في يده من أزرار نووية.
في التوصيف العسكري يعد هذا الإعلان الأميركي عن القمة المزمعة بين العدوين اللدودين والتي قال عنها ترامب إنها "قد تنتهي دون التوصل لاتفاق أو تؤدي إلى أعظم اتفاق للعالم" تعبيرًا عن استسلام أميركي بالدرجة الأولى لجهة أن من لوَّح باستخدام القوة وبالسلاح النووي هو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب على خلفية التجارب الصاروخية والنووية التي أخذت بيونج يانج تجريها تباعًا، في تحدٍّ واضح لما يريده أعداء كوريا الشمالية في المجموعة الدولية، إلا أن ما هدد به ترامب لم يكن سوى فقاعات أخذت تنفجر مع أول نفثة لتجارب صاروخية جديدة عابرة للقارات أطلقتها بيونج يانج، مع إعلان كوري شمالي الاستعداد التام للذهاب بعيدًا في المواجهة التي لن تكون تقليدية.
الاجترار الأميركي في طرح خيار الحوار بديلًا للمواجهة العسكرية ـ النووية يعيد رسم إحداثيات السياسة الأميركية في لعبة حرق الأوراق واستبدالها وفق تطورات الأحداث، خصوصًا حين تترافق بتصعيد سياسي وعسكري، غير أنه في الوقت ذاته بديل يعكس حالة الإفلاس التي بلغتها سياسة الولايات المتحدة في تعاطيها مع ملف الأزمة الكورية، ويظهر ذلك بصورة جلية في عدم قدرتها على جر من تدَّعي واشنطن أنهم حلفاؤها وأنها ملتزمة بالدفاع عنهم ـ ونعني بهم هنا تحديدًا اليابان وكوريا الجنوبية ـ إلى أتون معركة الانقضاض على خصمهم اللدود (كوريا الشمالية)، حيث تريد واشنطن من حلفائها اليابانيين والكوريين أن يكونوا وقود حربها على كوريا الشمالية، وهذا ما لم يتأتَّ لها؛ لأن كلًّا من اليابانيين والكوريين الجنوبيين ذاقوا طعم الحروب ومآلاتها وكوارثها ونتائجها، وضحوا بكل غالٍ ونفيس في حروبهم التي خاضوها، وبالتالي فهم غير مستعدين للتضحية مجددًا والبدء من الصفر، خصوصًا وأن اقتصادهم في مراكز الصدارة في الترتيب العالمي لاقتصادات العالم، وكذلك أن هذه الحرب إذا قامت لن يكون فيها أحد منتصرًا، بل الجميع خاسرون، فلا تزال مشاهد إلقاء الولايات المتحدة قنبلتيها النوويتين على هيروشيما ونجازاكي ماثلة في الذاكرة.
صحيح أن الولايات المتحدة تجيد الرقص على كل الحبال، وتتبع سياسة التصعيد حتى حافة الهاوية بحيث تكون الخيارات مفتوحة على احتمالات شتى، إلا أن المقاربة الأميركية الجديدة بالرغبة في الحوار مع عدو يدرك موقعه في الأبجديات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة لن تكون نزهة ودعائية، لا سيما وأن الأميركي جاء مطالِبًا الكوري الشمالي بتسليم مفاتيح سيادته وأمنه القومي، ويعلم الأخير أنه بتسليمه هذه المفاتيح إنما قد سلم عنقه للمقصلة الأميركية؛ لذلك لا بد أن يكون هناك ثمن أميركي يكافئ أو يفوق ثمن تلك المفاتيح الكورية.
وأمام هذا القدر المتيقن، تبدو التحذيرات الصادرة من دبلوماسيين أميركيين سابقين مدركة لطبيعة المسار التفاوضي ومنعرجاته مع خصم قد جربه الأميركيون سابقًا، ويمتلك سياسة النَّفَس الطويل. فقد حذرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون من أن إدارة الرئيس دونالد ترامب "لا تقر بخطورة" إجراء محادثات مع بيونج يانج حول نزع الأسلحة النووية، مضيفة أن واشنطن تفتقد لوجود دبلوماسيين يمتلكون الخبرة اللازمة لإدارة المحادثات. ونقلت صحيفة "الجيمين داجبلاد" الهولندية الشعبية عن هيلاري كلينتون في مقابلة نشرت السبت الفائت "إذا أردت مناقشة كيم جونج أون بشأن أسلحته النووية، تحتاج إلى دبلوماسيين من ذوي الخبرة". مؤكدة أن على الدبلوماسيين أن يكونوا "على إلمام بالملفات ويعرفون الكوريين الشماليين ويجيدون لغتهم". لكنها أشارت إلى أن وزارة الخارجية الأميركية "تتآكل" وسط تقلص أعداد الدبلوماسيين الذين لديهم خبرة في الملف الكوري الشمالي بعد استقالة العديد من مناصبهم. وقالت "لا يمكن أن يكون لديك دبلوماسية دون دبلوماسيين"، مضيفة أن "حكومة ترامب لا تقر بخطورة" ذلك. أما الدبلوماسي المحنك بيل ريتشاردسون المندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة بيل ريتشاردسون فأدلى بتصريحات مشابهة في وقت سابق حيث قال "إنها فرصة حقيقية، وما يقلقني هو قلة التحضير والانضباط من جانب الرئيس. لكنني أهنئه على مبادرته البالغة الجرأة بقبول هذه الدعوة". لكنه حذر "لسنا في مسابقة (ذي أبرينتيس) (التي كان يقدمها ترامب) أو في برنامج من تلفزيون الواقع. ينبغي التفاوض مع زعيم لا يمكن التكهن بما سيفعله ولديه ما لا يقل عن عشرين سلاحًا نوويًّا ويهدد الولايات المتحدة".
وعلى الرغم من أن القمة المنتظرة موعد انعقادها في مايو القادم، وحتى هذا الموعد، فإن الأحداث متسارعة ومتطورة ومتبدلة، مع ما ذكرنا بأن هناك ضغوطًا وتحذيرات للرئيس ترامب من خطوة كهذه دون الإعداد لها جيدًا، لذا من الوارد أن يرى موعد هذه القمة النور أو أن يذهب مع الريح. وإن عقدت القمة في موعدها ففي تقديري أن من بين الأسباب التي ذكرتها آنفًا والتي دفعت إلى انعقادها هو أنها تأتي بعد الخطاب التاريخي للرئيس فلاديمير بوتين الذي أكد فيه عزم بلاده الدفاع عن حلفائها في حال تعرضهم لهجوم بالسلاح النووي أو الباليستي وبالسلاح ذاته. وأنها بالنسبة لبيونج يانج أن القبول الأميركي في حد ذاته بالجلوس مع من تصفه واشنطن بأنه "شر" و"متمرد" وغير ذلك فيه اعتراف أميركي بالدولة الكورية الشمالية وبدورها المؤثر، وكذلك إظهار لهذا الدور أنه استطاع أن يجلب القوة العظمى إلى طاولة الحوار مع دولة صغيرة محاصرة ويضع الشروط المناسبة، وهو ما يبعث برسالة إلى دول العالم المظلومة والمحاصرة والمضطهدة أن شموخها وقوتها وسيادتها واستقلالها في تمسكها بقيمها ومبادئها وقرارها، ورفضها التواطؤ والخنوع للقوى الامبريالية. أما بالنسبة للصين فإنها ترى في تمهيدها للقمة وتقريبها للفرقاء ردًّا على الاتهامات الأميركية بعدم اتخاذها الخطوات الكافية لردع بيونج يانج، فضلًا عن الهدوء الذي ترغب فيه بكين للتفرغ لمواجهة خصومها اقتصاديًّا وعسكريًّا. أما أميركيًّا فمن الوارد أن واشنطن وصلت إلى نتيجة مفادها أنها غير قادرة على المواجهة استنادًا إلى جملة الأسباب التي ذكرناها آنفًا، وبالتالي ربما تجد في الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية فكرة مناسبة لاستنساخها مع بيونج يانج للتمكن من النفوذ داخل المجتمع الكوري الشمالي وزعزعته من الداخل.

خميس بن حبيب التوبي
[email protected]