[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” عندما اندلعت الثورة الجزائرية في العام 1954م انضمت جميلة لجبهة التحرير وهي في العشرين من عمرها وكانت مهمتها زرع الألغام في طريق المدرعات الفرنسية, حتى أصيبت برصاصة في كتفها أثناء إحدى العمليات وأصبحت مطاردة من الجيش والشرطة الفرنسية, وتم القبض عليها عام 1957م , وهي ساقطة على الأرض تنزف جراء إصابتها, وبدأت رحلتها القاسية مع التعذيب على يد جلادي الاستعمار الفرنسي ...”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زارت المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد القاهرة مؤخرا, وحظيت ابنة ثورة المليون شهيد باستقبال حافل على المستويين الرسمي والشعبي, حيث تم تكريمها كضيف شرف لمهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة؛ الذي ينظمه المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة في مصر وسط حضور نسائي مصري وعربي وإفريقي رفيع؛ حيث حملت دورة المهرجان هذا العام اسم "جميلة بوحيرد" تكريما لدورها في تحرير بلادها الجزائر من نير الاحتلال الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي وتاريخها الحافل بالتضحية والفداء والشجاعة والعطاء لوطنها وأمتها العربية, فسكنت القلوب على مدار الأجيال وصارت رمزا للمرأة العربية وتمكينها والدفاع عن حقوقها على مدار أكثر من نصف قرن.
وفي كلمتها بحفل التكريم أعربت بوحيرد عن أسفها لاضطرارها إلقاء كلمتها باللغة الفرنسية ملقية الذنب على الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي استمر 132عاما واعتبر الجزائر محافظة فرنسية, وحاول بشتى السبل أن يمحي كل ما يربط الجزائر بمحيطه العربي من ثقافة ولغة وعادات وتقاليد؛ فحرم بوحيرد من تعلم اللغة العربية التي تعشقها وتتذوق من خلالها الشعر والغناء والفن العربي ولكنها بسبب ظروف نشأتها واعتقالها وزواجها من محاميها الفرنسي أصبحت تجد صعوبة في التحدث بالعربية وإن كانت تفهم معانيها وتدرك مفرداتها.
ونزولا على رغبة الحضور تحدثت قليلا بالعربية قائلة :" بقدر سعادتي لزيارة مصر قلب العروبة النابض , بقدر حزني لما يحدث في ليبيا وسوريا واليمن وتمنت أن يتوقف العنف ويعم السلام جميع الدول العربية, وأعربت عن سعادتها لزيارة مصر للمرة الثانية بعد 56 عاما, كانت المرة الأولى عقب نجاح الثورة الجزائرية في العام 1962م وخروجها من الأسر, عندما استقبلها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في منزله وسط أفراد أسرته, وحظيت بترحيب شعبي منقطع النظير, خصوصا أن الزيارة جاءت بعد عرض فيلم سينمائي يحكي قصة كفاحها, حمل اسمها "جميلة" أنتج في العام 1958م , كتب قصته الأديب يوسف السباعي وصنع له السيناريو والحوار نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي, بطولة ماجدة التي تقمصت شخصيتها ومن إخراج يوسف شاهين وإنتاج الفنانة ماجدة الصباحي التي سافرت وقتها للجزائر للقاء بوحيرد في محبسها واستعانت بلقطات حقيقية من جلسات محاكمتها والتقت بأبطال جبهة التحرير الجزائرية أحمد بن بلة وهواري بومدين وعبدالعزيز بوتفليقة الذين تولوا حكم الجزائر فيما بعد.
حضرت حفل التكريم هدى الابنة الكبرى للزعيم جمال عبدالناصر, واصطحبت معها فيلما تسجيليا نادرا عن زيارة جميلة بوحيرد الأولى للقاهرة والذي تظهر فيه هدى جمال عبد الناصر وهي برداء المدرسة وتقف بجوار أبيها وأفراد أسرتها لتصافح المناضلة الجزائرية التي كانت تمثل رمزا لكل بنات هذا الجيل.
وتحدثت هدى عبد الناصر عن دور مصر عبدالناصر في نجاح ثورة المليون شهيد بالجزائر وكيف كانت السفن تُبحر من الإسكندرية محملة بالأسلحة لتوصيلها لثوار جبهة التحرير رغم المخاطر المحيطة بمصر في ذلك الوقت ومساندة مصر الرسمية والشعبية ووقوفها مع الشعب الجزائري حتى حصوله على الاستقلال وإرسالها المدرسين لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية في إطار خطة التعريب التي تبنتها الجزائر عقب الاستقلال.
وللأجيال الجديدة التي لا تعرف من هي جميلة بوحيرد, هي مناضلة جزائرية من مواليد عام 1935م , نشأت في حي القصبة بالجزائر العاصمة لأب جزائري وأم تونسية وكانت البنت الوحيدة وسط سبعة أشقاء وكان لوالدتها التأثير الأكبر في حبها للوطن؛ حيث زرعت فيها أنها جزائرية لا فرنسية, فكانت ترفض ترديد النشيد الوطني الفرنسي في طابور المدرسة الذي يقول إن فرنسا أمنا وتغيره إلى الجزائر أمنا رغم تعرضها للعقاب من مدرسيها الفرنسيين.
عندما اندلعت الثورة الجزائرية في العام 1954م انضمت جميلة لجبهة التحرير وهي في العشرين من عمرها وكانت مهمتها زرع الألغام في طريق المدرعات الفرنسية, حتى أصيبت برصاصة في كتفها أثناء إحدى العمليات وأصبحت مطاردة من الجيش والشرطة الفرنسية, وتم القبض عليها عام 1957م , وهي ساقطة على الأرض تنزف جراء إصابتها, وبدأت رحلتها القاسية مع التعذيب على يد جلادي الاستعمار الفرنسي الذين لم يرحموا ضعفها وبدلا من أن يضمدوا جراحها راحوا يصعقونها بالكهرباء لمدة ثلاثة أيام لتعترف على زملائها, لكنها تحملت التعذيب الوحشي وكانت تغيب عن الوعي وحين تفيق تقول "الجزائر أمنا", وحين فشل الجلادون في انتزاع أي اعتراف منها أحالوها لمحاكمة صورية قضت بإعدامها من أول جلسة, ولكن جميلة ظلت صامدة ورددت جملتها الشهيرة :" أعرف أنكم سوف تعدمونني لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة".
تحدد يوم 7مارس 1958م لتنفيذ حكم الإعدام في جميلة بوحيرد, لكن العالم كله ثار واجتاحت المظاهرات شوارع لندن وباريس وسائر العواصم والمدن من أوروبا إلى أميركا اللاتينية, واجتمعت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بعدما تلقت ملايين برقيات الاستنكار من جميع أنحاء العالم, ليتأجل تنفيذ الحكم, ومن ثم يعدل إلى السجن مدى الحياة, وبعد تحرير الجزائر عام 1962م , تخرج جميلة بوحيرد من السجن وتتزوج محاميها الفرنسي جاك فيرجس الذي دافع عن مناضلي جبهة التحرير الوطني, والذي أسلم بعد ذلك وغير اسمه إلى منصور, وتولت بوحيرد بعد الاستقلال رئاسة اتحاد المرأة الجزائرية ولكنها لم تستمر أكثر من سنتين, لتعتزل العمل العام وتتوارى عن الأنظار ولكنها ظلت مهمومة ومتابعة لقضايا بلدها وأمتها العربية على مدار هذه السنين لتنال حب واحترام الجميع.