[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/ibrahim.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]ابراهيم بدوي[/author]
” ..كانت الدول الكبرى أو الاستعمارية، تسعى دوما لرسم صورة ذهنية لها، بشكل يسمح لتمرير أغراضها الخفية، وكانت تلك المصدات القيمية من الأهمية بمكان، لجعل تلك الدول تتراجع ولو مؤقتا عن مصالحها الاستعمارية، لتحافظ على هذه الصورة الذهنية، والسعي الدؤوب إلى ربط الأطماع والمصالح، بشعارات براقة، ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يوما بعد يوم تثبت مجريات الأحداث، أن امتلاك القوة، سواء كانت عسكرية أم اقتصادية، هو المفتاح الرئيسي لضمان الحقوق الوطنية للدول على مختلف أحجامها وثقلها الديمجرافي، أو مكانتها الجغرافية، أوحتى ثرواتها الطبيعية أو البشرية، خصوصا في عالم يتكلم بلغة مصالح ليس لها مرجعية قيمية، أو حدود أخلاقية، تستطيع أن توقف جموح تلك المصالح، صحيح أن عامل القوة كان منذ الأزل هو المحرك الأساسي لقيام واضمحلال الإمبراطوريات العظمى والدول ذات المكانة الإقليمية المعتبرة، لكن التوجه الاستعماري كان دوما يتلحف برداء من الأخلاق المستمدة من قيم دينية أو فكرية، تشكل غطاء لطموحاته وأطماعه غير المشروعة، باختصار كان هناك مرجعية تحمل مجموعة من الشعارات التعبوية، المرتكنة على أفكار تتحدث عن الحرية والعدل والمساواة كغطاء فكري للأهداف الاستعمارية.
وكانت الدول الكبرى أو الاستعمارية، تسعى دوما لرسم صورة ذهنية لها، بشكل يسمح لتمرير أغراضها الخفية، وكانت تلك المصدات القيمية من الأهمية بمكان، لجعل تلك الدول تتراجع ولو مؤقتا عن مصالحها الاستعمارية، لتحافظ على هذه الصورة الذهنية، والسعي الدؤوب إلى ربط الأطماع والمصالح، بشعارات براقة، تتيح لبعض سكان المستهدف استعمارها وسرقة مقدراتها، العمل بأريحية مع المحتل، بدافع تلك القيم، مما يصب دوما في تقليل خانة الأعداء، عبر شعارات يراها البعض مقبولة لتبرير الارتماء في حضن المستعمرين، بل إن بريطانيا العظمى عندما كان لا يغرب عنها الشمس، كانت تحرص على إقامة طبقة من سكان الدول التي تستعمرها، ليكونوا شركاء في الحكم، يقومون ببعض المشاريع التنموية من أجل تثبيت مكانة أصدقائها في تلك الدول من ناحية، ومن ناحية أخرى تصب هذه المشاريع في سياسة تسمين البقرة، مما يصب في ديمومة حلبها واستدامة الاستفادة منها.
وقد طورت أميركا تلك النظرية، بفكر يقوم على شعارات الحرية والعدالة وحق تقرير المصير، أو ما يسمى بالنظرية الولسونية، نسبة للرئيس الأميركي ولسن، ولكنها اكتفت دائما بالحرص على أن يظل حلفاء واشنطن أو عملائها بحكم الواقع، في مواقع اتخاذ القرار في البلدان المستعمرة، خصوصا في فترات الصراع مع الاتحاد السوفيتي، حيث كان السوفيت يملكون مجموعة من الشعارات البراقية حول العدالة والمساواة، كان السباق الاستعماري يفرض على أميركا أن ترفع إيدولوجية مضادة تكون لديها القدرة على منافسة الإيدولوجية السوفيتية البراقة، بمفاهيم حقوق العمال، والعدل والمساواة، لذا رفعت واشنطن مبادئها الرامية للحرية المطلقة وحلم المعجزة الأميركية، وغيرها من الشعارات، التي كانت تداري القوة بشكل قد يحجبها، في بعض اللحظات الفارقة، وترضخ بعض الدول لشعاراتها، حتى وإن كانت تمتلك المقدرة العسكرية، كما حدث في أزمة خليج الخنازير بكوبا، أو بعزل بريطانيا العظمى للورد كرومر بعد حادثة دنشواي في مصر، وغيرها من المواقف التاريخية.
لكن ما يحدث مؤخرا في العالم، من ارتكان مطلق للقوة دون الحديث عن شعارات قيمية، أصبح ملفتا للنظر بشدة، فواشنطن تغزو العراق في 2003، وتدمر شعبه بمزاعم هي من نفتها وقتها، والأكثر من ذلك أنها سعت عبر تسمين الإرهاب وتمويله، إلى فرض واقع جديد للقيم، فالإرهاب الذي صنعته واشنطن برغم مرجيعته الدينية، إلا أنه يظل مكشوفا إنسانيا، ويعلم القاصي والداني من تجرده من القيم، بشكل أصبح آلة للقتل في يد القوة الاستعمارية، وفي ذات الوقت مبررا يجردهم من التزاماتهم القيمية، كما حدث في العراق وسوريا وليبيا، حيث تحالفت واشنطن مع عتاة الإرهابيين، بهدف إسقاط أنظمة مناوئة لها.
ولكن اللافت في الحرب الكلامية بين أميركا وكوريا الشمالية، أن واشنطن التي بادرت ودمرت بلدانا عربية، لم تجرؤ حتى على الحديث الصريح بشأن حرب على كوريا الشمالية، فكانت تهديدات الرئيس ترامب في واد، وباقي التصريحات الأميركية في واد آخر، يسعى إلى حصار بيونج يانج، والاستمرار في فرض المزيد من العقوبات، وعندما لوح الزعيم الكوري الشمالي عن إمكانية موافقته للقاء نظيره الأميركي، أخذت التصريحات الأميركية تأخذ منحى آخر، ويتحدث وزير الخارجية الأميركي عن أهمية اللقاء حتى وإن لم يقال به شيء، أو لم يتم الاتفاق فيه على شيء، فبحسب الدبلوماسي الأميركي المخضرم، اللقاء في حد ذاته إنجاز، وهو ما حدا بوزير الدفاع الأميركي، بأن يؤكد أنه لن يتناول في تصريحاته كوريا الشمالية بالسلب، حتى يتم إجراء اللقاء في بيئة مواتية تخلق تقاربا في الرؤى بين واشنطن وبيونج يانج، ما يجعلنا نحن أيضا نردد المثل المصري العامي الذي يقول .. (عالم تخاف ما تختشي)...

إبراهيم بدوي
كاتب صحفي مصري
[email protected]