تدبر القرآن الكريم له أثر بالغ في الشخصية المسلمة؛ حيث يجعلها دائمة المراقبة لله سبحانه وتعالى، والخشية من عقابه، مما ينعكس ذلك على سلوك الفرد في حركاته وسكناته، وكل تصرّفاته وتعاملاته مع ما يحيط به، يقول النووي:"ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع، والتدبر، والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب .. وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة ليلة كاملة، أو معظم ليلة، يتدبرها عند القراءة".
وإذا كان الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه، أنه لو أنزل هذا القرآن الكريم على جماد لا يفقه شيئاً؛ لخشع من خشية الله؛ فكيف بالإنسان الذي اختصه الله بالعقل، وكرّمه بالفهم والإدراك، وأمره بالتدبر والتفكّر، يقول الله تعالى:{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر ـ 21)، فالله تعالى يقول معظماً لأمر القرآن، ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه؛ لما فيه من الوعد الحق، والوعيد الأكيد: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته؛ لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خشية الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه؛ ولهذا قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
إن الذي يزن الأمور بميزان العقل، ويتدبر آيات الله المتلوّة والمنظورة؛ يستجيب لنداء الله سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق ـ 37) والذي يستجيب لنداء الله، وهو نداء الفطرة أيضاً، هو المنتفع بآيات الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر ـ 23)، فهذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه. صلى عمر ذات يوم بالناس، ولما وصل إلى قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} (يوسف ـ 86) فإذا به يبكي، حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف، وكان قبل سنوات يدفن ابنته حية في الرمال، أما الآن فها هو يبكي تأثراً بالقرآن، إنها يقظة الضمير وحياة القلب. ذكر ابن كثير في سياق هجرة عمر بن الخطاب مع عياش بن ربيعة وهشام بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ أن الكفار حبسوا هشاماً عن الهجرة، واستطاع أبوجهل أن يرد عياشاً إلى مكة، بعد حيلة ماكرة وخطة خادعة، وقد كان شائعاً بين المسلمين أن الله لا يقبل ممن افتتن توبة، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، حتى قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، وأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الزمر 53 ـ 55). قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص. قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى؛ أصعد بها وأصوب، ولا أفهمها؛ حتى قلت: اللهم فهّمنيها؛ فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة).

اعداد ـ د/ سعيد بن راشد الصوافي