[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
حين أستعرض لقرائي العرب هذه الحقائق التي سجلها مهندسوها الغربيون فإني أدعو الجيل العربي الراهن من الشباب إلى الاعتبار بها، وإدراك بعض العبر التي تنفعنا اليوم وأهمها أن استراتيجية الغرب إزاءنا لم تتغير، بل تلاءمت مع مستحقات العصر، وحللوا يا قرائي الكرام ما يقع في الغوطة الشرقية من مصائب عربية وغير عربية لتتأكدوا أن قرار مجلس الأمن لن يغير كثيرا من واقع الحال؛ لأن النفط والغاز أغلى من الدم السوري..

استعرضنا في الجزء الأول من المقال بعض أسرار وخفايا السياسة الأميركية تجاه العرب، كما دونها رئيس الولايات المتحدة آنذاك (دوايت أيزنهاور) ونواصل عرض الصدمة الغربية حينما أعلن الزعيم جمال عبدالناصر تأميم القنال، وهو ما اعتبرته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تهديدا مباشرا لمصالحها الحيوية، وتغييرا جوهريا لتحالفات العرب الدولية، ولم ييأس عبدالناصر من أميركا حتى بعد رفض واشنطن بيع الأسلحة لمصر فعرض على أيزنهاور تمويل بناء سد أسوان بالتعاون مع البنك الدولي فتم نفس الضغط ـ إلى جانب ضغط (إيدن) الذي كان يعتبر القضاء على مصر قصما حاسما لظهر العرب، ورفض أيزنهاور تمويل السد العالي فتوجه عبدالناصر إلى السوفييت. كتب أيزنهاور في مذكراته بتاريخ 8 مارس 1956 ما يلي: (إني مقتنع أن عبدالناصر لن يقوم بأي حركة من أجل السلام، وأن العرب أصبحوا وقحين، ولذلك سوف أعمل جهدي على إحداث الشقاق بين عبدالناصر والملك سعود) . وتصاعدت تحديات عبدالناصر مهددا بتأميم القنال فتضاعف خوف أميركا وفرنسا وبريطانيا واستغلت إسرائيل التي كان يتزعمها بن جوريون آنذاك هذا الخوف لإثارة الغرب بأسره ضد مصر ولم تنقطع تحديات عبدالناصر فأعلن في أواخر مايو أن مصر تعترف رسميا بالصين الشعبية وترفض الاعتراف بالصين الوطنية وزعيمها (شان غاي تشاك) وتحرك (ايدن) في اتجاه الاحتلال العسكري للقنال ولمصر إن لزم الأمر قائلا في مذكرة بتاريخ 27 مايو 56 موجهة إلى أيزنهاور: (إن الغرب سيختنق وستنقطع عنه حنفية النفط ولا يمكن أن نترك عبدالناصر يؤمم القنال ويهدد مصالحنا البحرية.. والأمر يدعو إلى تأديب عبدالناصر..). وكان أيزنهاور يميل حسب المعطيات التي استقاها من (دالس) ومن المخابرات الأميركية إلى عقد ندوة لإيجاد حل قائلا في مذكراته وفي رسالة أبلغها (روبرت مورفي) إلى (ايدن) بتاريخ 2 سبتمبر 56: (إن لدينا في منطقة الشرق الأوسط وخاصة من بين العرب حلفاء أعربوا لنا عن رغبتهم في تحجيم عبدالناصر، ولكنهم يرون أن عملا عسكريا في القنال لا يأتي بتلك النتيجة..). وجاء جواب (ايدن) يوم 7 سبتمبر 1956 ليذكر أيزنهاور بأن بريطانيا وفرنسا تحالفتا في الحرب الأخيرة مع الولايات المتحدة (ولا يمكن أن نترك الغرب ينهار على مراحل). في منتصف نهار 31 أكتوبر علم أيزنهاور أن الطائرات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية معززة في الأرض بقوات ثلاثية كبرى هاجمت مصر وأن عبدالناصر تمكن من غلق القنال، وجمع قواته للمقاومة، وكتب الرئيس الأميركي في مذكراته بأن ذلك الهجوم كان مفاجأة عظمى له تعادل مفاجأة (بيرل هاربر) في ديسمبر 1941 أو الهجوم الألماني على فرنسا في ديسمبر 1941 والبقية معلومة لدى المؤرخين فقد تحرك أيزنهاور الرئيس الأميركي و(بولجانين) زعيم الاتحاد السوفييتي حينذاك لإنهاء العدوان، واغتنم الكرملين هذا الحدث ـ ومناخ الانتخابات الرئاسية الأميركية ـ ليقوم بغزو المجر واحتلال عاصمته بودابست لسحق المتحررين. ويهب أيزنهاور ليستخلص العبرة من العدوان الثلاثي فيقول (أنا مؤمن بأن مصالح أميركا رهينة استقرار منطقة الشرق الأوسط أكثر منها رهينة الشرق الأقصى). ويضيف أيزنهاور يوم 5 فبراير 1957 قائلا: (لعل مصلحة أميركا تتلخص في الحفاظ على حاجة العرب المستمرة للمعونة الغربية مع استعدادنا للتدخل العسكري إذا ثبت أن جزءا من هذا العالم العربي أصبح قويا لدرجة تهديد إسرائيل) ثم يقول أيزنهاور تلك الحكمة التي ذهبت مذهب الأمثال في الخمسينيات حين خطب أمام الكونجرس يوم 3 مارس 1957 قائلا: (بصورة عامة نحن بإزاء قادة عرب محتاجين للسلاح يحكمون شعوبا محتاجة للخبز). حين أستعرض لقرائي العرب هذه الحقائق التي سجلها مهندسوها الغربيون فإني أدعو الجيل العربي الراهن من الشباب إلى الاعتبار بها، وإدراك بعض العبر التي تنفعنا اليوم وأهمها أن استراتيجية الغرب إزاءنا لم تتغير، بل تلاءمت مع مستحقات العصر، وحللوا يا قرائي الكرام ما يقع في الغوطة الشرقية من مصائب عربية وغير عربية لتتأكدوا أن قرار مجلس الأمن لن يغير كثيرا من واقع الحال؛ لأن النفط والغاز أغلى من الدم السوري، خصوصا إذا أهدر العرب أنفسهم هذا الدم بسلاحهم. العبرة من قراءة كتب المذكرات قديمها وحديثها هي أنها تضطرنا إلى معرفة أسرار السياسات وتفكيك شفرات التحالفات السرية بين الكبار اللاعبين على الساحة الشرقأوسطية، ولعلها أيضا توقظنا من غفوة العقود الماضية لنمسك بمصيرنا بأيدينا.