سبلة سْطار.. عروس بيت الطين

سيناريو
في البيئة العمانية القديمة، هناك العديد من مناخات الحياة، التي شكلت خصوصية تجعل بعض تفاصيلها عصية على التشابه، وإن تشاركت بعض المفاهيم العامة حول وظائف الأشياء ودلالاتها.
البيوت العمانية متغيرة بين السعف والطين والحجر، بعضها منفرد وبعضها مزدوج مواد التصنيع، ولكنها في الحالات كلها، هي تعبير عن استقرار وسكنى، وهي صفة ملازمةٌ البيوت، لكن مع فروقات في بعض التفاصيل، التي تجعل هوية البيت الحجري تختلف عن هوية الطيني، والنموذجان يختلفان عن البيت السعفي، وهذه الاختلافات مردّها إلى طبيعة السطح وجغرافيات البيئة العمانية المتعددة، فهذا التعدد هو بيت قصيد الإبداع ، بخاصة في التعاطي مع هندسة المكان، وبما يصبّ في مصلحة الرؤية البصرية، عندما تستجلي جمال التفاصيل في تلك الهندسات.
النقد الثقافي المُغْفِل هذه السمات، والواقع في وهم التوصيف على حساب ما خلف ذلك، جعل المرئيات لا تتجاوز - في التعاطي معها- أكثر من كلمات الثناء والإعجاب، ولسنا هنا سوى مقاربين الصورة الأخرى المستكنة خلف التوصيف، التي ربما ستثير أو ستثري أو ستعمل على تحديد زوايا نظر جديدة لتلك الهندسات، وصلتها بمن فيها حين كانوا فيها.
ربما هذا ما ستقوله (سبلة سْطار)، بصفتها عروس بيت الطين، بما يعنيه ذلك من أسئلة فكرة كونها عروسا مزدوجة في بيت الطين.

خارطة طريق
من أجل وضع خارطة طريق لهذه الرؤية البصرية، علينا التعاطي مع فكرة الفرح في بيت الطين من زاويتين، الأولى متصلة بكينونة هذه الغرفة (سبلة سْطار)، والثانية مرتبطة بمن يسكنها، ومن أين أتت بفكرة كونها عروسا في بيت الطين..
البيت العماني الطيني القديم متعدد الهندسات والأشكال، فبعضه قليل الغرف وبعضه كثيرها، وبعضه من دور واحد، وبعضه من دورين، ولأننا أمام نموذج تلك الغرفة، فهي متحققة الوجود في مختلف أشكال الهندسات البيتية الطينية، هذا على مستوى الوظيفة، أما المساحة وما يتم وضعه فيها فهذا عائد إلى القدرة المالية لمن سيقوم بتكليف (الوستادية) بتصميمها.
تبدأ الفكرة من كون هذه السبلة ليست مجرد هندسة، وليست مجرد شكل لشغر فراغ في بنية بيت، بل هي مكان خاص جدا، مكان سيظل يحمل ذاكرة مختلفة عبر أجيال، كما أنها ستكون حاملة ذكريات لا تمّحي من الوعي الاجتماعي والعاطفي، ومركز حياة يترك الروتين وراءه ظهريا، ولكل ذلك كانت هذه السبلة غيمة المطر التي يراد لها أن تكون محملة بمنّ وسلوى وجمال الاختلاف عن العالم الذي لا يفصلها عنه سوى جدار.
(الوستادية) معنيون بفهم هذا جيدا، وتحويله إلى حقيقة واقعة، بل وملفتة النظر، في إطار الهندسة والوظيفة، وجمال الصنعة وجودتها، فهي بمثابة استثمار طويل الأمد، وحياة ذات ظل ظليل.

هندسة خاصة
(سبلة سْطار)، الاسم الغريب الذي يشير إليها، يحمل سمة خاصة، وهو الترتيب، فـ (سْطار) في اللفظ المحلي القديم هو الترتيب والتنظيم، و(سَطّر) بمعنى رتّب، وهذه الصفة لا تلغي كون التنظيم والترتيب بصيغة هارمونية تناغمية في التفاصيل متناقضة مع عناصر البيت الأخرى، فالبيت يحتوي على : ليوان، دكان، بخّار أو غرفة تخزين التمور، خيمة (مطبخ) ويسمونها (مْوَرّا)، عريش من السعف، والغرفة المفتوحة في زاوية بعيدة من البيت وتسمى (مَتْرَب) بمعنى حمّام؛ هذه التشكيلة الهندسية الاعتيادية للبيت العماني الطيني القديم لا تفترض الفوضى أو عدم التنظيم، لكن على مستوى (سبلة سْطار) فهي ذات تنظيم وترتيب واهتمام وعناية خاصة، لا تبلغها بقية الغرف في البيت، ولهذا تحظى بتنظيمين مهمين، الأول هندسي، والثاني تأثيثيّ، وكلاهما يكملان بعضهما البعض، فالهندسي يتم تشكيله ليتناسب مع التأثيثي بطريقة متناغمة، بحيث أن من يشاهدها ستثير لديه الدهشة من فرط الجمال الذي حظي بتنظيم ملفت..
بشكل عام خارجي، هي غرفة ذات شكل مستطيل، لها نافذتان (دريشتان) على جهتيّ باب السبلة، وفوق باب السبلة هناك ثلاث دوائر محفورة بشكل مبطن تعطي رسمة مثلث، وفي كل حفرة صحن أبيض (صين)، والجدار الأمامي (مصلوح) ليعطي نعومة واستواء دون نتوءات.
الجهة الداخلية من السبلة لها شكل هندسي مختلف، فعلى الجدار المقابل باب الدخول هناك صفان من الأشكال الهندسية المحفورة في الجدار، الصف السفلي مكون ثلاث أو أربع تجويفات على شكل مربع، أحيانا تكون صغيرة وأحيانا كبيرة، وفي الصف العُلويّ هناك ثلاث أو أربع تجويفات على شكل مثلث، وهي تتبع في طول الضلع الموازي الشكل السفلي في الطول والقصر، من أجل تناسق بصري عام للمشاهدة، وفوق الشكل المثلثيّ ثلاث تجويفات دائرية محفورة في الجدار، تحتوي على صحون بيضاء صغيرة (صين)؛ ويمكن أن تزيد أعداد الصفوف الشكلية المربعة والمثلثة المحفورة في الجدران، بحسب الرغبة أو الحاجة.
على يسار الباب، بالتوازي مع الجدار، هناك مرتفع بقدر شبر أو شبرين، ملتصق بالجدار، بحيث تسمح مساحته بوضع (مندوس) أو أكثر عليه، وهو أشبه بخزانة مفتوحة، لأن فوقه تمتد عصا طويلة مربوطة بحبلين من الطرفين، والحبلان متصلان بسقف السبلة، لتظل العصا متأرجحة، وقادرة على حمل أثقال الفرش والملابس عليها، من قبيل (لِمْفُرْشِة).

قبل الـ سْطار
غرفة بتلك الهندسة، وبتلك المواصفات، تستدعي تأثيثا مختلفا، سواء كان على مستوى الحُفَر المربعة والمثلثة (الروازن)، أو على مستوى الجدران والزوايا على الأرضية.
في كل (روزنة) هناك أوان (وعيان) ينبغي من خلالها سد الفراغات تلك، وهي مكونة من أوعية مختلفة : مِلال صغيرة وكبيرة، صحون كبارا وصغارا، فناجين قهوة متعددة الأحجام؛ فالـ مِلال يتم رصها داخل بعضها البعض، والصحون تكون بمثابة قواعد لـ الملال، وفناجين القهوة يتم بها تزيين الواجهة السفلية لكل روزنة، بحيث تعطي انطباعا بحصول تنظيم منسجم ومتناغم.
تلك الأوعية يسمونها (صين)، وهي إما أن تكون مستوردة من الصين، وتباع في (الهبطات/الأيلاب)، أو يتم شراؤها من (البنادر) الأسواق الكبرى الساحلية، هذا من ناحية، وإما أن الاسم يعود إلى الصون والصيانة، فما تحصل عليه من اهتمام يعطي هذا المفهوم أيضا، وهي من مادة الزجاج المعتم المقوى ذي اللون الأبيض، والمزين خارجه بنقوش مختلفة، غالبا تكون بلون بنيّ فاتح أو برتقالي، وهو جميلة المظهر، بخاصة مع البياض الناصع من جهتيّ الداخل والخارج.
أما الأرضية المحاذية للجدران، فيتم ترصيعها بـ (الوسايد)، وهي من حيث الشكل مربعة، كبيرة وصغيرة، وبعضها مساند (دَكْيِه)، إذ يتم وضع حُصُر على الأرض أو (زوالي) بُسُط، ثم يتم ترتيب (الوسايد) و(الدكايا) برسم خاص، ففي صدر السبلة هناك الوسادة الضخمة، وفوقها دكايا، وبين الوسادة الكبيرة والتي تليها - وتكون صغيرة الحجم مقارنة بها- تكون الوسايد مرصوصة بشكل عمودي فوق بعضها، لتعطي مظهرا جماليا مقبولا في ذلك الوقت.
السر في التنظيم هو حجم الوسايد وألوانها المتعددة، سواء في الواجهة أو الزوايا، وذلك بعد ملئها بالقطن أو الـ (أرا)، بحيث تعطي انتفاخا متجانسا مع الشكل، لينعكس ذلك مع جوهر الهارمونيكا العام لتوزيع التفاصيل الصغيرة في الغرفة..
جهة المرتفع سيتم وضع مندوس (الساج) ، حيث الأشياء الضرورية ستكون فيه، وفي الجهة ذاتها سيكون (مَدحى) النوم للرجل وعروسه، وليست تلك الزاوية ملزمة، بل هو موضوع خاضع للمزاج والرغبة.
على يمين الباب سيكون القنديل معلقا بسلسلة متصلة بالسقف، لكي ينير المكان في الليل..
خاتمة
هذه السبلة، هي أيقونة بيت الطين العماني، وهي بوابة جماله، وفاتحة سماوات فرحه، لهذا استحقت هذه الهندسة تكوينا، والأثاث روحا..

عبدالله الشعيبي