[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
نعيش نحن العرب هذا الأسبوع حربا عدوانية على شعب غزة ونشهد ظاهرة انتشار جيوش (داعش) في العراق كما عشنا منذ أربعة أعوام منعرجا تاريخيا من أخطر و أدق ما تمر به الأمم بسبب التغييرات العميقة التي طرأت على مجتمعاتنا بفعل انتفاضة جماهير الناس العاديين والشباب منهم خاصة لأسباب أهمها اجتماعي يتعلق بإفلاس أنظمة التعليم التي خرجت عاطلين واتساع دائرة الظلم الاجتماعي وسبب سياسي أيضا يتعلق بعجز الدولة الحديثة عن توفير المؤسسات الدستورية الضامنة للحريات وجاءت هذه الانتفاضات في نظر المراقبين وتحت مجهر المحللين ذات قوة وبأس حتى لو اعترى تلك الهزات انحراف طبيعي أسبابه فقدان البوصلة وعدم تأهيل النخب الجديدة لممارسة الحكم وتهافت القوى الكبرى الإقليمية والعالمية على جلب مياه الجداول الثورية إلى مجاري أنهارها. وليس من المبالغة أن نصنف تلك التحولات العربية الجذرية في خانة عودة الوعي الجماهيري العربي بأولوية الكرامة ومستحقات المواطنة والطموح المشروع للمشاركة في اختيار المجتمعات المدنية لحكامها وسن قوانينها وبناء مؤسسات الدولة العادلة ولا نغفل عن ذكر الدور الحاسم الذي لعبته الثورات الرقمية وانتشار وسائل الإتصال الجماهيري وسرعة انتقال المعلومة وسريان عدوى الأفكار والرؤى.
وجاءت موجات التغيير الأولى مبشرة بصحوة حضارية أي بالعودة للكرع من ينابيع أمجادنا الأصيلة من تربية وثقافة وفكر سياسي ومناهج حكم وقوانين شرعية تنظم العلاقات بين الناس وبين الحاكم والمحكوم وبين الزوج والزوجة بعد أن ضاعت المنظومات السياسية القديمة لعهد ما بعد الاستعمار في متاهات الضلال الحضاري لأن دول ما بعد نيل الاستقلال اكتفت بإجلاء المستعمر الصليبي الهمجي لكنها أبقت على كامل آلياته القمعية في أجهزة الحكم و أدواته التخريبية في مجال التعليم ووسائله التغريبية في الثقافة الرسمية السائدة فأصيبت شخصيتنا بمسخ مقيت حين احتفظ حكام ما بعد الاستقلال عموما وفي الأغلب بكل دواليب إدارة المستعمر ولغته وتقاليده وملبسه ومأكله وسائر شؤون حياته وأغلب سلوكياته (كما قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون) ولتصديق تحليلي إفتح أية قناة أفلام عربية كلاسيكية أبيض وأسود لتكتشف أن النخبة البورجوازية في المجتمع المصري مثلا بعد جلاء الأنجليز وحتى في عهد عبد الناصر المتسم بالثورية والاشتراكية واصلت لبس الرودنجوت والبدلة الأفرنجي وشرب النبيذ الفرنسي والرقص نساء ورجالا على طريقة الأوروبيين واللثغ بعبارات (مرسي يا فندم) و(بونسواريا هانم) بل و حتى احترام ساعة الشاي الإنجليزي (تي تايم) ولم تنفرد مصر بهذه العادات الدخيلة المتمكنة منا بل كان المجتمع الشامي والمغاربي يسلك نفس الانحرافات بكل حسن نية اعتقادا من النخب الحاكمة والمتعلمة (وإلى اليوم) بأن التقدم والحداثة ومواكبة العصرلا يمثلها سوى المستعمر القديم الذي أخرجناه من أرضنا بقوة السلاح و بالملايين من الشهداء ولكنه استوطن عقولنا واستعمر وجداننا وعشش في قلوبنا! وهو ما سماه أستاذي المفكر الجزائري العبقري رحمه الله مالك بن نبي (قابلية شعوبنا للاستعمار) حتى بعد جلائه عن أوطاننا وما سميته أنا (قابلية شعوبنا للاستبداد) وكنت في الستينيات أتابع بشغف ما يرويه لنا أستاذنا في الثانوية بالقيروان الشاعر الطيب الشريف الذي جاءنا من الجزائر بعد دراسته في جامعتها وفيها تعرف على مالك بن نبي وكان أول من ترجم بعض مؤلفاته من الفرنسية إلى العربية ثم هجرنا الطيب الشريف وعاد للجزائر حيث توفاه الله في أواخر الستينيات في ظروف غامضة ومجهولة إلى اليوم وبعض قصائده منشورة في مجلة الأداب البيروتية التي أسسها وأدارها الكاتب اللبناني (سهيل إدريس) صاحب رواية (الحي اللاتيني). والطيب الشريف من مدينة القيروان مثلي ـ رحمة الله عليه وعلى مالك بن نبي. فقد كان مالك بن نبي مسكونا بما سماه (مشكلات الحضارة) وبهذا العنوان نشر سلسلة مؤلفاته جميعا والرجل لم ينل حظه إلى اليوم رغم أن رؤيته الخلدونية الثاقبة لا تقل أهمية وعمقا عن نظريات (أرنولد طوينبي) أو (صمويل هنتنجتون) لأن هذا الرجل وهو طبيب مهنة وتكوينا شخص علل الأمة الإسلامية واقترح لها أقوم المسالك لتحقق نهضتها مؤكدا أن الحداثة الأصيلة هي الطريق وليست الحداثة الدخيلة وأن الأمم إنما تنهض بلغتها وتراثها وأمجادها واستقلال قرارها و تفعيل سيادتها دون إنغلاق ولا تطرف ولا غلو لا بإلتقاط فتات الحضارات الأخرى والإندماج فيما نظنه مثلا أعلى من الأنماط. علما و أن شعوبنا أضاعت مخزونها الحضاري جريا وراء سراب الثقافات الطاغية ظنا من نخبها العلمانية أننا نلتحق بالغرب بينما نحن نتشبه بشكلياته ومظاهره التي تخلى عنها هو نفسه ونحن لا نمتلك أدوات نهضته السريعة بل نكتفي باستهلاك إنتاجه واحتقار ذواتنا وإلحاق علمائنا بجامعاته مثل أحمد زويل.
إن الصحوة الحضارية التي جاء بها لقاح انتفاضة الشعوب تكاد تضيع من أيدينا حين نرى طلائع الردة السياسية تتشكل في يأسنا من الديمقراطية الناشئة وميلنا لعودة الطغيان اعتقادا من بعض الغافلين أن بطش الدولة هو هيبتها بينما هيبة الدولة تكمن في قوة مؤسساتها وشدة احترامها للقانون واعتماها على العدل بين الناس حين تكون هي الحامية لأمننا والراعية لأعراضنا والضامنة لأرزاقنا و الجامعة لشملنا. لم يدرك العرب بعد أن الزمن لا يرجع الى الوراء وأن التاريخ كما قال (هيرودوت) مثله كمثل النهر يتبع مجراه المرسوم له منذ الأزل و الويل للمغفل الذي يقف ضد مجراه فهو لا محالة مجروف بقوة التيار سائر إلى حتفه. أهم ما حل بالعالم العربي رغم الأخطاء و نزعات العنف هو اكتشاف المواطن للمواطنة أي الاشتراك في وطن واحد مع بقية خلق الله له ما لهم من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات. أما صفحة القمع الأعمى التي لم ترحم الناس فقد طويت إلى الأبد وبلا رجعة وغير مأسوف عليها ورحمك الله وطيب ثراك أيها الرائد محمد المنصوري وليعلم الأجيال من أبناء تونس أن هذا الشهيد البطل قتله الزبانية في كهوف أمن الدولة وهو معلق في وضعية الدجاجة المشوية بين طاولتين في قضية ما سماه الطاغية (المجموعة الأمنية) أواخر أكتوبر 1987 قبل أسبوع من إعلان الانقلاب على بورقيبة. وشهد على استشهاده صديقنا الدكتور الصحبي العمري الذي نجا من القتل ليروي نقطة من بحر المظالم هذه المظالم التي يريد مرضى النفوس وفاقدو الضمائر والذين فقدوا سطوتهم على الناس بضياع مناصبهم أن يعودوا بها الى بلادي بحجة قالتها شاعرة الطغاة (بنت النظام البائد) وهي أن (علبة معجون الطماطم أغلى من ذي قبل !!!) ونقول لها ولهم بأن دم الرائد المنصوري أغلى من علبة الطماطم و أن الشعب بالمرصاد وإرادته من إرادة الله سبحانه و لله الأمر من قبل و من بعد.