(ويطـوفُ عـليهـم غُـلمـانٌ لهم كأنَّهـم لـؤلـؤٌ مكـنـون)
يقـول الله تعالى:{ويطـوفُ عـليهـم غُـلمـانٌ لهم كأنَّهـم لـؤلـؤٌ مكـنـون} (سـورة الطـور 24)، زاد الله تعالى لهـم نـعـمة أخـرى ، وهـو طـواف الخـدم عـليهـم، ومـن المعـلـوم أن المجـالـس لا تكـتمـل متعـتها إلا بـوجـود سـقـاة يطـوفـون بها عـلى الجـلـوس ، يصـبون لهـم المشـروبات في الكـؤوس، وهـذا ما نعـرفـه ، وكـتـب الأدب مـلآى بأوصاف مجـالس الشـراب وأوصاف السـقـاة ، الـذين يـتـم اخـتيارهـم غـلـمانا ناضـري الـوجـوه ، ذكـورا وإناثا ، ولـذلك قال الله تعالى:{ويطـوفُ عـليهـم غُـلمـانٌ لهم كأنَّهـم لـؤلـؤٌ مكـنـون} (سـورة الطـور 24)، وصـفهـم الله تعالى بانهـم غـلمان لأهـل الجـنة ، أي هـم خـدم يخـدمـونهـم كالممـلـوكـين، ونحـن نـرى المـلـوك والأغـنيـاء في الـدنيا ، يتخـذون غـلمانا لهـم كأنهـم أرقـاء ، وكل واحـد منهـم يـتباهى ويـقـول : هـذا غـلامي وهـذه جـاريتي.
قال بعـض المـفـسرين: إن أولاد المشـركين الـذين مـاتـوا دون البـلـوغ سـيكـونـون خـدما لأهـل الجـنة، ونحـن لا نعـلم مـقـدا ر صحـة هـذا القـول غـير أن قـولـه تعالى: {غُـلمـانٌ لهـم} يـدل عـلى أنهـم ممـلـوكـون لهـم ، وهـذا يـجـعـل الغـلمان هـم أولاد المشـركين بـعـيـد جـدا ، ولـو أن الله تعالى يمـن عـلى غـير البالغـين مـن أولاد المشـركين والمنافـقـين بـدخـول الجـنـة ، والعـلم الحـقـيقـي عـنـد الله، أما الـذي نـوقـن بصحـته فهـو ما وردت به آيات كـثـيرة مـن القـرآن الكـريـم، تـدل عـلى أن الله تعالى عـمـر الجـنة بالحـور العـين كـما عـمـرها بـولـدان مخـلـدين كأنهـم لـؤلـؤ مـكـنـون ، زيادة في متعـة المتقـين.
قال تعالى:{كأنَّهـم لـؤلـؤٌ مكـنـون}، شـبه الله تعالى جـمال أولـئـك الغـلمان ووضاءة وجـوهـهـم باللـؤلـؤ المكـنـون المحـفـوظ في صـدفه: لأنهـم محـفـوظـون في الجـنـة ، واللـؤلـؤ ، هـو الجـوهـر الـذي يخـلـق في الأصـداف ويسـتخـرج مـن البحـر، وإذا أخـرجـت اللـؤلـؤة مـن كـنها (أي مـن صـدفـتها) كانـت أضـوأ ما تكـون، وكـلما حـفـظـت في حـق مـن الحـقـاق بـعـيـدة عـن التأثـيرات الجـوية كلما كانت أنضـر وأصفى ، وورد في الحـديث النبـوي الشـريف أن سـائلا سـأل النبي (صلى الله عـليه وسـلم)، فقال : يا رسـول الله هـؤلاء الخـدم وصـفهـم الله تعالى بأنهـم لـؤلـؤ مكـنـون ، فـكـيف بالمخـدومـين المـؤمنـين أصحاب الجـنـة ؟ ، فـقال النبي (صلى الله عـليه وسـلم): (بينهـم ما بـين القـمـر ليلة البـدر والنجـوم)، ونـرجـو مـن الله تعالى أن يجـعـلنا مـن أهـل الجـنة ، الـذين يـمتعهـم بهـذه النـعـم فـنـعــرف الحـقـيقـة.
نص الحـديث : ذكـر أن رجـلا قال : يا نبي الله ، هـذا الخـادم فـكيـف المخـدوم؟، قال:(والـذي نفـس محمد بـيـده إن فـضـل المخـدوم عـلى الخـادم كـفـضل القـمـر ليلة البـدر عـلى سائر الكـواكـب ) " تفسير الطـبري جـ 27ص29".
قال الله تعالى:{ وأقـبـلَ بعـضهـم عـلى بعـضٍ يـتسـاءلـون} (سـورة الطـور 25)، هـذا وصـف آخـر لما يحـدث في مجـالـس أهـل الجـنـة ، فـبعـد أن ذكـر الله تعالى قـبـل هـذه الآيـة مجـالسـهم مـع أزواجهـم وأولادهـم ومـع إخـوانهـم ، عـنـدما يكـونـون عـلى ســرر مـتقـابلـين يـداولـون الأخـبار بـينهـم التي كانت لهـم في الـدنيا، لأنهـم لا ينسـونها قال الله تعالى:{وأقـبـلُ بعـضهـم عـلى بعـضٍ يـتسـاءلـون} ، وليـس مـعـنى التـساؤل أن يكـون السـؤال مـوجـها دائـما مـن واحـد ويـكـون الجـواب مـن آخـر كـلا .
وإنمـا كل مـن خـامـرته فـكـرة يسـأل عـنها ، وكلهـم يسأ وكلـم يجـيب ، ولـيست الحـكمة في تسـاؤلهـم وتحـاكـيهـم أخـبار الـدنيا ،وإنما الحـكمـة كل الحـكـمة فـيمـا يتسـاءلـون وفـيما يتحـاكـمـون ، ولـم يـقـص الله تعالى كل ما يتحـاكـاه أهـل الجـنة، وإنما عـمـد مـباشـرة إلى ما لنا فـيه عـبرة وعـظـة فـذكـره ، فـلـننتبـه إليه ولا نـغـفـل.
قال الله تعالى:{قالـوا إنا كـُنّا قبلُ في أهـلنا مشـفـقـين} (سـورة الطـور 26)، لـقـد عـشنا في الـدنيا آمنـين بـين أهـالينا ، وكـنا مشـفـقـين خـائـفـين ، وكنا نـذكـر عـذاب النار ونخـاف سـخـط الله ، تـرى لمـاذا لم يـقـولـوا إنا كـنا في الـدنيا مشـفـقـين ولـو قالوا هـذا لصـلح يعـني : كـنا في الـدنيا خـائـفـين مـن عـذاب النار وسـخـط الله، ولـكـنهـم قالوا: {في أهـلنـا} وهـذا ما حـرص الله تعالى عـلى إظـهـاره ، وافهـموا النكـتة جـيـدا.
مـن المعـلـوم أن الإنسان عـادة ما يـكـون آمـنا مـطـمئـنا إذا كان في أهـله بـين زوجـته وأولاده ، وبـين آبائـه وإخـوانه ، ولا سـيما إذا أقـبلـت عـليه الـدنـيا واسـتـوت له الحياة ، فإنه في هـذه الحـالة يأمـن ، ويـغـفـل فـيها عـن ذكـر ربه وعـن الآخـرة ، بحـيث يكـون فـيها كالنائم الـذي لا يـتـفـكـر فـيـما يـستـقـبله مـن أهـوال يـوم القـيامة ، لأن الـسر كل السـر يكـمـن في الخـوف مـن الآخـرة.
قال الله تعالى:{فالـذين لا يـؤمنـون بالآخـرة قـلـوبهم منكِـرة وهـم مسـتكـبرون} (سـورة النحـل 22)، فأهـل الجـنة قالوا:{إنا كُـنّا قـبـلُ في أهـلنا مشـفـقـين}، وكأنـهـم لم يـكـونـوا في الـدنيا بيـن أهـلهـم في حـالة اسـتقـرار وأمـن ، لأن قـلـوبهـم كانت دائـما تـرتجـف خـوفا مـن الآخـرة، وإذا تـفـكـروا البـعـث والـوقـوف بـين يـدي الله تعالى للحـساب والخـوف مـن العـقاب المنـتـظـر أو المصـيبة المـتوقـعـة يـعـبر عـنه بالإشـفاق عـلى النفـس.
قال الله تعالى:{فـمـنَّ الله عـلينا ووقانا عـذاب السمـوم} (سـورة الطـور 27)، لـقـد كـنا ونحـن في الـدنيا بـين أهـلنا في اسـتـقـرار وأمـن ، رغـم ذلك فـنحـن في خــوف مـن أمـر الآخـرة ، وصحـبـنا هـذا الخـوف حـتى لـقـينا ربـنا ، فالـيـوم قـد مـن الله عـلينا بـرحـمته وفضـله إذ وقـانا عـذاب السـمـوم.
قال الله تعالى:{إنّا كـُنّا مـن قـبـل نـدعـوه إنه هـو الـبر الـرحـيم} (سـورة الطـور 28)، لـقـد كـنا في الـدنيا نتـضـرع إلى الله ونـدعـوه وهـو الـبر الـرحـيم ، لأنه لا حـاجـة به إلى تعــذيـبنا، كـما قال الله تعالى:{ما يـفـعـل الله بـعـذابـكـم إن شـكـرتم وآمـنتـم وكان الله شـاكرا عـلـيما } (سـورة النـساء 147).
مـن بـديـع المـلاحـظات التي تـبـدو مـن المـقارنـة بـين ما ورد في قـولـه تعالى:{ إن المـتقـين في جـنات وعـيـون، آخـذين ما آتاهـم ربـهـم إنهـم كانـوا قـبـل ذلك مـحسـنين، كانـوا قـليـلا مـن اللـيـل ما يهـجـعـون، وبالأسـحـار هـم يـستـغـفـرون، وفي أمـوالهـم حـق للـسائـل والمـحـروم} (سـورة الـذاريات 15/17)، إن الله تعالى بـين لنا في هـذه الآيات الـسبـب الـذي جـازى به المـتـقـون كل هـذا الجـزاء الحـسن ، ولـو أن ســائـلا سـأل قـائـلا : يا رب ما هـذا الإحـسان الـذي اسـتحـق به أولـئـك كل هـذا الجـزاء؟.
فـكان الجـواب كـما الله تعالى:{كانـوا قـليـلا مـن اللـيـل ما يهـجـعـون وبالأسـحـار هـم يسـتغـفـرون وفي أمـوالهـم حـق للـسائـل والمحـروم} (سـورة الـذاريات 17 ـ 19).
أما في هـذه الـسـورة: سـورة الطـور التي تـلـت سـورة الـذاريات، فـلما ذكـر الله تعالى جـزاء المـتقـين، ذلك الجـزاء العـظـيـم ، قال في أسـلـوب مخـاطـبة المـتقـين بـعـضـهـم لبعـض قال:{إنا كُـنّا قـبـلُ في أهـلنا مشـفـقـين فـَمـنَّ الله عـلينا ووقـانا عـذاب السـمـوم، إنا كُـنّا مـن قـبـلُ نـدعـوه أنه هـو الـبر الـرحـيم}، ومعـنى هـذا أن الله تعالى يـريـد أن يـقـول لنا : إذا أردتـم أن تعـرفـوا الـسبب الـذي نال به المـتـقـون تلك الـدرجـات العـلى ، فلأجـل أنـهـم كانـوا في أهـلهـم مشـفـقـين.
وإذا أردتـم أن تصـلـوا إلى تـلك العـاقـبة وذلك المستــوى، وتكـونـوا مـن زمـرة المـتقـين الـذين يكـرمهـم الله بهـذه الكـرامات، حـتى يـلحـق بهـم أبنـاؤهـم ، فـعـليـكـم أن تكـونـوا وأنـتـم في الـدنيا في أهــلكـم مشـفـقـين ، أي خـائـفـين مـن عـذاب الآخـرة ، ومـن الـوقـوف بـين يـدي الله مهـما اسـتـقامت لـكم الـدنيا ، ووجـدتـم فـيها كل راحـة ومتعـة.
هـذه هـي النكـتـة المهـمة التي تـبرزها هـذه الآيـة الكـريمة ، فـلم يكـن الله تعالى يعـبـث عـنـدما اخـتار مـن بـين كـلام المـتقـين (وهـم في الجـنـة يتـساءلـون) قـولهـم:{ إنا كـنـا قـبـل في أهـلنا مشـفـقـين} ثـم كان التـعـقـيـب بالفـاء له مـعـنى:{ فـمـن الله عـلينا و وقانا عـذاب السـموم}، ولهـذه الفاء قـيمة كـبرى في هـذا المـقام ، يـعـني بـسبب الإشـفاق في أهـلنا وبـسبب الخـوف مـن عـذاب الآخـرة والـوقـوف بـين يـدي الله عـليـنا فـعـصمـنا مـن عـذاب النار .
.. وللحـديث بقـية

ناصر بن محمد الزيدي