[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” الكثير من القصص التي تحكي عن انبثاق الفكرة وبدايات انطلاق المشروع من مثل (مرآب السيارات) والتي تصور عمل مؤسسا(جوجل) بأنه كان (خالصا لوجه الله) هي من (وحي الخيال)، وتندرج في قائمة (النوادر الطريفة) كما يؤكد الكتاب. فيما الحقيقة أنه وأثناء انشغال كل من بيج وسيرجي بالبحث عن (مادة تصلح لرسالة الدكتوراه) اهتديا أخيرا إلى تبني (مشروع مشترك يرمي إلى اعتماد محرك يرتب صفحات الويب وفق أهمية كل صفحة، على أمل أن يكون هذا الموضوع هو رسالتهما لنيل الدكتوراه)،”
ــــــــــــــــــــــــ

(ملف جوجل) هو عنوان لكتاب حديث صدر في يوليو 2017م، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، من تأليف تورستن فريكه واولريش علي . ما يميز هذا الكتاب عن غيره من الكتب أنه أولا : يتحدث عن إمبراطورية العصر ( جوجل) التي لم يعد أحد بقادر (على الاستغناء عن خدماته)، التي يلجأ إليها بـ(نحو متزامن ملايين من بني البشر) حول العالم . ويجيب على عشرات الأسئلة التي تطرح يوميا من مثل كيف ولدت فكرة المشروع ؟ وكيف تحول (جوجل) من فكرة شع ضوئها في عقل شابين لا يزالان في مقاعد الدراسة الجامعية، إلى امبراطورية تهيمن على العقول وتصنع الأفكار وترسم السياسات والقرارات وتمهد وتعزز القناعات والإيمان العميق بعالم الصناعة الرقمية وتستبيح الدول والشعوب عبر هذا الكم الهائل من البيانات والمعلومات والخدمات التي تقدمها ؟ طبيعة البيئة التي احتضنت مؤسسي شركة (جوجل) باعتبارها المحيط المناسب القادر على تنمية وتوسع (المواهب في أجواء علمية بحتة) ؟ ... ثانيا : استقلالية مؤلفيه كونهما يقدمان رؤيتهما من خارج منظومة (جوجل) التي لا حصر للكتب التي تحيط بإمبراطوريته والتي سارت في مديحها له ولمؤسسيه على نهج شعراء البلاط من المتملقين والانتهازيين الذين يقتاتون من فتات جوجل) . ثالثا : لما تضمنه الكتاب من بيانات ومعلومات قيمة وعرض تاريخي دقيق وصياغة محكمة وقراءات متخصصة مستندة على جهد المؤلفين ومثابرتهما في الإحاطة الشاملة بهذا الملف، مقدما تفاصيل مهمة للمراحل الزمنية التي سبقت وخلال وبعد تحكم (جوجل) واستحواذها على شركات متخصصة في صناعة وتسويق أجهزة الاستشعار والتحسس ومنتجات تزودها بالبيانات والمعلومات التي ليست بحوزتها وتمكنها بالتالي من (تحويل الإنسان الى ينبوع متكامل يفيض ببيانات ومعلومات تصلح للاستثمار وتضمن تمدد جوجل في البنى الهيكلية التي سيقوم عليها المستقبل)، فقد كانت جوجل تسعى منذ البدء وبكل الوسائل على (تركيز البيانات الضرورية لتحسين نمط حياتنا في يد واحدة) . أخيرا : ما يميز هذا الكتاب أن القارئ وهو يبحر في عالمه يشعر بالفارق العظيم والبون الشاسع بين ثقافة وطموحات عالم مؤسسي(جوجل) المتقدم في كل شيء، المنطلق الى المستقبل بكل ثبات واقتدار وثقة وبين عالمنا العربي الذي ما تزال مجتمعاته لا تفقه الكثير من المفاهيم الحديثة ولغة العصر التي تتقنها الشعوب والأمم العاملة، ولا تعير اكتراثا واهتماما بمتطلبات حياة اليوم وما استجد ويستجد في عالمنا من طفرات علمية تفوق خيالنا ولا نكاد نستوعبه، ولا تزال لا تستخدم الكثير من التقنيات والأجهزة والبرامج المتطورة ولم تتمكن من الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى عالم البحث والتصنيع . لقد عرض الكتاب لفلسفة التعليم في الغرب والوعي المجتمعي العميق وثقافة العمل الأهلي التطوعي وتأثير البيئة الحاضنة والمحفزة للإبداع والمبدعين، ودور الأغنياء والشركات في القطاع الخاص في دعم وتمويل الأفكار والمشاريع العلمية، والإسهام في نقلها من مجرد فكرة تلمع في عقل شاب مبدع الى مرحلة التنفيذ والتطبيق. إن الكتاب يقدم لنا في حقيقة الأمر رؤية شاملة لروح العلم وثقافة العمل والإيمان بالإبداع والبحث العلمي وحماية الأفكار واحتضانها، والتي تأتي في قمة اهتمام الإنسان والمجتمعات والدول والحكومات في الغرب، وهي سر تفوقه وتقدمه وتجيب على الأسئلة العقيمة التي ما تزال تطرح في عالمنا العربي منذ ما يزيد عن قرن من الزمن من مثل : لماذا تقدم الآخرون فيما ما نزال نقبع في ذيل قائمة الأمم المتقدمة والمتحضرة تفصلنا عنهم عقود من الزمن ؟.
مؤسسا جوجل هما لاري بيج وسيرجي برين، ولد الأول في مارس ١٩٧٣ في مدينة إيست لانسنج وهي موطن جامعة ولاية ميشجان، التي تعتبر واحدة من أرقى الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة الأميركية، وتتصف الأجواء الفكرية فيها بالنزعة الليبرالية والميول اليسارية، التي ساهمت في صياغة ملامح حياة بيج. كما شكلت وفاة والده(صدمة قوية وامتحانا عسيرا) له، الى جانب ذلك فقد استعاض عن مطالعة روايات (الأطفال والفتيان) بـ) المجلات العلمية المتخصصة في الكمبيوتر وقطع غيار الأجهزة الإلكترونية التي كانت تتناثر في كل ركن من أركان الدار)، مما حفزه واحد أصدقائه على قضاء (الفراغ في تنفيذ تجارب عملية على كمبيوتر تقادم عهده)، وأصبح اخوه كارل فيكتور (قدوة لاري في مسائل مزاولة النشاطات الاقتصادية) . في عام ١٩٩٥ تخرج لاري من جامعة ولاية ميشجان بدرجة بكالوريوس في علوم الهندسة وعمل في العديد من المجالات قبل حصوله على درجة الماجستير في علوم الحاسوب والبرمجة. وأثناء مشاركته المجموعة البحثية المتخصصة في دراسة العلاقة المتبادلة بين الإنسان والحاسوب للحصول على درجة الدكتوراه تعرف لاري على شريكه سيرجي برين. هذه كانت أبرز المحطات لواحد من أهم شخصيات العصر الحديث والمؤثرات التي صقلت شخصيته. أما شريكه سيرغي فقد ولد في موسكو في أغسطس ١٩٧٣، وكانت للأحداث السياسية في تلك المرحلة الحساسة ، وهجرة أسرته الى الولايات المتحدة الأميركية، وتمكنها من تجاوز العديد من المحن والصعاب التي واجهتها، والمنزلة العلمية لوالده الذي كان مثقفا ومولعا بالرياضيات بشدة، ووالدته التي درست الرياضيات وعملت في مختبر أبحاث للغاز والبترول في موسكو. الدوافع الأساسية للتحولات التي شكلت شخصية المؤسس الثاني لجوجل وجعلت منه شخصاموهوبا بـ(شكل غير عادي ويمتلك قدرات استثنائية في الرياضيات في وقت مبكر حينما كان عمره لا يزيد على ست سنوات)، وهيأته لأن ينهي دراسته في العام ١٩٩٣ في (الرياضيات وعلم الحاسوب والبرمجة بدرجة شرف من جامعة ماريلاند وهو في التاسعة عشرة من عمره) . إلى جانب الموهبة التي تمتع به مؤسسا (جوجل)، فقد مارس (الاهتمام الذي حظيت به تقنية المعلومات في برامج التدريس والبحث العلمي المعتمدة من جامعة ستانفورد دورا متميزا)، حيث نمت عبقريتهما وتطورت في بيئة جمعت بين شعار الجامعة (هواء الحرية يهب)، و(الكفاءات العلمية والاقتصادية المتقدمة والأسلوب المميز لسجايا الحياة ..) وهو المحيط الملائم الذي تحتاجه (جوجل) لـ(تحقيق الانطلاقة الباهرة والنمو المستديم) . محيط يركز جل اهتمامه على (المثابرة والإقدام على المخاطر، ومترع بالأرقام والمسائل التقنية) .
الكثير من القصص التي تحكي عن انبثاق الفكرة وبدايات انطلاق المشروع من مثل (مرآب السيارات) والتي تصور عمل مؤسسا(جوجل) بأنه كان (خالصا لوجه الله) هي من (وحي الخيال)، وتندرج في قائمة (النوادر الطريفة) كما يؤكد الكتاب . فيما الحقيقة أنه وأثناء انشغال كل من بيج وسيرغي بالبحث عن (مادة تصلح لرسالة الدكتوراه) اهتديا أخيرا إلى تبني (مشروع مشترك يرمي إلى اعتماد محرك يرتب صفحات الويب وفق أهمية كل صفحة، على أمل أن يكون هذا الموضوع هو رسالتهما لنيل الدكتوراه)، فأوصلتهما أبحاثهما وما حصلا عليه من تمويل (الأجهزة التي يحتاجان إليها) إلى ابتكار محرك بحث قادر على (تحليل 30- 50 صفحة في الثانية الواحدة، وبعد محاولات لاختيار اسم للمحرك استقرا في العام 1997 على اسم (جوجل) . بسرعة فائقة انتشرت شهرة (جوجل) وحصلت على أول تمويل لنفقاتها التشغيلية بقيمة ١٠٠ ألف دولار أميركي من قبل المستثمر المغامر بيشتولسهايم . وعكفا حينها برين وبيج على (معالجة ١٠٠ الف استفسار تصلهما . وفي ١٩٩٨ أدرجت إحدى المجلات المتخصصة شركة جوجل في (قائمة اكبر مائة موقع ويب ومحرك بحث). وظلت الشركة تنمو بلا انقطاع، وحصلت على مبالغ تمويلية من مستثمرين ورجال أعمال آمنوا بالمشروع، وكسبت المال من أعمال الدعاية والترويج، وظلت تعقد الصفقات والتحالفات والشراكات وعمليات الاستحواذ على براءات الاختراع وابتكار البرامج الفعالة للسيطرة على السوق، فما بين العامين ٢٠٠٢-٢٠١٤ استحوذت على أكثر من (١٧٠ شركة، وشاركت، في رؤوس أموال عشرات الشركات الأخرى)، وارتفت أحجام مبيعاتها من مليار دولار إلى حوالي 60 مليار في العام 2013 . لقد صار في مقدور جوجل ان (توسع حدود امبراطوريتها أكثر فأكثر، وان توسع دائرة نفوذها التجاري بالنحو الذي يحلو لها . لقد صارت جوجل اخطبوطا مترامي الأبعاد) . وفي تطور آخر تم تسجيل أسهم الشركة في البورصة . في مطلع ٢٠١٤ كتبت مجلة (كابيتال) بان (جوجل) باتت (تهيمن فعلا على حيز كبير في حياتنا اليومية او في حياة بني البشر قاطبة)، حيث (تنشط فيما يزيد على ٥٠ بلدا وتعرض منتجاتها بأكثر من ١٠٠ لغة) . تستقبل جوجل في اليوم الواحد (١٥٠ مليون بحث بمعنى أنها تستقبل ١٠٠٠ سؤال في الثانية الواحدة).
يؤكد الكاتبان بأن أهداف مؤسسي (جوجل) المعلن عنها في جملة من الرسائل الترويجية التي تبث عبر محركها من مثل (تنسيق المعلومات المتداولة في العالم واعدادها لتكون متاحة ونافعة للجميع وفي كل الازمنة) وبأنها أي جوجل (تراعي متطلبات حماية البيئة)، وتعرض مساعدتها بإنشاء صفحات ويب حينما (تعصف بالعالم كوارث طبيعية وحين تنشأ ظروف استثنائية( وتكرس (وصلات لحشد المساعدات وجمع التبرعات المالية) وتوظف ما لديها من (بنوك معلومات للتفتيش عن المفقودين)، وتحدث شعارها بشكل مستمر ليتوافق مع مناسبات أعياد الميلاد واحتفالات العالم بالبيئة وغيرها، فإنها بتلك الشعارات لا تسعى الا لتلميع صورتها امام العالم وكسب المال الوفير، وتخزين وتوثيق كميات هائلة من المعلومات والبيانات وتوظيفها لخدمة (جوجل) ... التي استخدمت الكثير من المراوغات والأحابيل للتهرب من دفع الضرائب عبر (تحويل ما تتسلمه من تراخيص) إلى مناطق ودول تستطيع فيها أن تسدد نسبة زهيدة للضرائب، فقد سددت الشركة على سبيل المثال ( ١٧٤ مليون يورو عن ارباح بلغت ٥،٨ مليار يورو وتساوي هذه الضريبة معدلا يبلغ ٣% فقط) . كما ضربت (جوجل) عرض الحائط بكل الاحتجاجات والاتهامات التي تلقتها عندما وافقت و(طأطأت رأسها أكثر فأكثر أمام قادة النظام الأحمر لكي لا تخسر رخصة العمل في الصين . فقد التزمت جوجل بألا تظهر في محرك البحث العائد لها مصطلحات معينة، من قبيل مصطلح (تيانانمن) المشير الى مجزرة عام ١٩٨٩ومصطلح (فالون جونج) المشير الى حركة روحية محظورة في الصين ...)، مع إصرار (جوجل) على المضي قدما في (كبت حرية التعبير عن الرأي وحجب الحقائق، لا لشيء إلا رغبة منها في زيادة الأرباح) .
ليس هذا بالطبع كل ما يتضمنه الكتاب الذي عرض كذلك الى معيقات ومتاعب وخسائر واخفاقات تتعرض لها (جوجل) وممارسة أنشطة محظورة لا حصر لها، من بينها (التجسس) لحساب (وكالة الأمن القومي الأميركية) عرضت سمعتها لفضائح عديدة أبلغت مؤسسيها سدة المحاكم والملاحقات والاتهامات والتحقيقات الصحفية ...إنها قصة نجاح عملاق من عمالقة العصر التكنولوجي والتقانة ليت عالمنا العربي يستفيد شيئا من تجاربها ودروسها.

سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail .com