[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
يبدو أن الطاولة التي يراد لها أن تنجز الملفات الساخنة والمتسببة في صداع وقلق مزمنين لكل من الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي لم تستكمل حضورها ووجودها إلا باستكمال جلب المزيد ممن يعرفون بالصقور وإبعاد ممن يعرفون بالحمائم، وذلك في محاولة واضحة لاستنساخ إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش "الصغير" حين أتى بمن يعرفون باليمين المسيحي المتصهين أو "الصقور" لينجز أضخم ملفين ساخنين في ذلك الحين ، ومثَّلا همًّا أميركيًّا ـ صهيونيًّا مشتركًا، وهما أفغانستان والعراق، حيث استطاع هذا اليمين المتصهين والمتطرف أن يجيِّش الساسة الموالين للولايات المتحدة في العالم وفي مقدمتهم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا المستقيل لشن الحرب على ذينك البلدين.
استعصاءات النجاح الأميركي في عملية الإخضاع والتبعية والانتصار في الميادين الساخنة التي لا تكترث بما تلفظه ألسنة المهزومين من دعايات وتحريض وتشويش وتشويه ، ولا تلقي بالًا بمنابر تهتز على وقع المشهد المسجى على مسرح الاشتباك، هي التي تدفع اليوم ترامب إلى التغيير في وجوه إدارته التي لم تكمل سنتها الأولى، والإتيان بمن يتوافقون ويوافقون على نزعاته ونزواته ويؤيدونها.
ويكفي أولًا أن يكون أحد الذين أراد ترامب أن يقعدهم على الطاولة هو جون بولتون أحد أبرز وأشرس رموز اليمين المتطرف في إدارة الرئيس الأسبق بوش "الصغير" والذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ، للدلالة على ما أكدته مرارًا وتكرارًا في هذه الزاوية منذ بدء ترامب حملته الانتخابية بأن إدارته ستكون هي النسخة الجمهورية الثانية لإدارة بوش "الصغير".
ويكفي ثانيًا أن يرحب كيان الاحتلال الإسرائيلي بتعيين جون بولتون مستشارًا للأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس دونالد ترامب بدلا من هربرت ماكماستر، لتبيان حقيقة التوجه وطبيعته لإدارة ترامب، ليس من خلال انحيازهما المطلق وتأييدهما غير المسبوق للكيان المحتل فحسب ، وإنما أيضًا من خلال ما تعتزم هذه الإدارة الجمهورية استكماله من ملفات على صعيد إنجاز المخطط الصهيو ـ أميركي ـ غربي في المنطقة ، بتأمين بقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي وتنصيبه شرطيًّا عليها، والذي لا يتأتى إلا عبر تصفية القضية الفلسطينية، وتمزيق دول المنطقة ـ أو على الأقل إيصالها إلى مرحلة الوهن التام ـ وتحديدًا الدول التي تقف على مسافة بعيدة من السياسات الاستعمارية الإمبريالية والاحتلالية للولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية وكيان الاحتلال الإسرائيلي، وتعمل في مقابل ذلك على دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الظلم والاحتلال وجرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية التي يرتكبها صباح مساء كيان الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.
ما من شك أن دونالد ترامب مارس حقه الدستوري ليفرض على الشعب الأميركي مستشارًا للأمن القومي كان قد رفضه حين فرضه بوش "الصغير" مندوبًا على الأمم المتحدة، ورغم وصية الكونجرس آنذاك بعدم تعيينه. فقد ارتبط اسم جون بولتون في الذاكرة إبان الغزو الأنجلو ـ أميركي على العراق لجهة أنه أحد أبرز مهندسي كذبة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل باذلًا كل جهده لشن الحرب عليه، وكذلك أثناء الحرب العدوانية الإرهابية التي شنَّها كيان الاحتلال الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006، حيث لعب من موقعه في الأمم المتحدة أدوارًا تحريضية ـ بحكم صهيونيته المفرطة ـ فلا تزال صورته وهو على الشاشات الفضائية والمؤتمرات الصحفية مؤيدًا ومدافعًا عن هذه الحرب، لذلك لا غرو أن يصفه الإسرائيليون بأنه "سلاح "إسرائيل" السري".
من الواضح أن ترامب يسعى إلى استكمال إنجاز ما تبقى من الملفات الساخنة بعد ملفي أفغانستان والعراق، وهي: ملف البرنامج النووي الكوري الشمالي، وملف الاتفاق النووي الإيراني، وملف القضية الفلسطينية ومحاولة تمرير ما يعرف بـ"صفقة القرن"، وملف سوريا والمقاومة اللبنانية، وأوكرانيا والصين. فكل ملف من هذه الملفات يمثل صعوبة بالغة بالنسبة للولايات المتحدة، لا سيما في ظل عجزها عن استخدام القوة العسكرية، وبالتالي يحتاج إلى خبراء في السياسة الدولية وفي الأمن والاستخبارات ويمتازون بسياسة حافة الهاوية، أو الهاوية ذاتها، ويعد جون بولتون واحدًا من بين هؤلاء.ما يعني أننا أمام مرحلة أميركية ستشهد ربما مزيجًا بين السياسة المتشددة والتلويح بالقوة العسكرية ، في استعادة لسياسة "العصا والجزرة" التي ظلت تستخدمها طوال عقود هيمنتها.
على أن ملفي الاتفاق النووي وحزب الله هما أبرز ما يشغل بال الولايات المتحدة وكيان الاحتلال الإسرائيلي، ويملك جون بولتون دراية بهذين الملفين إضافة إلى ما اكتسبه من موقعه السابق في الأمم المتحدة ، فقد كان أحد الداعمين للقرار 1559، والداعين إلى تجريد حزب الله من السلاح، وإخراج الجيش العربي السوري من لبنان، وتحجيم دور إيران في لبنان من خلال تحجيم دور حزب الله، ما يعني إمكانية رؤية مواقف متشددة تجاه حزب الله يكون رأس رمحها سعد الحريري الذي بدأ بالهجوم على الحزب فعلًا، بعد أن كان فؤاد السنيورة هو رأس الرمح أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقد انتقده بولتون آنذاك بشدة لعدم موافقته على إدراج القرار رقم 1701 تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. لأنه في الفهم الصهيو ـ أميركي أن تحقيق الأهداف من وراء تسخين هذين الملفين وممارسة الضغوط الهائلة إزاءهما، كالانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أو محاولة ابتزاز طهران لتقديم تنازلات، وكذلك محاصرة حزب الله وعدم إشراكه في الحكومة، وإعادة فتح ملف نزع سلاح الحزب، وحصر السلاح بيد الدولة، يعد ذلك الطريق المعبَّد نحو تنفيذ ما يسمى بـ"صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية.
ولكن المشهد السياسي الدولي لا يبدو مُورِقًا للساسة الأميركيين مهما حاولوا تبديل مواقفهم وتصعيدها مخافة فقدان بلادهم صفة القوة الأعظم، والقطب الواحد، فالمتغيرات السياسية وحتى العسكرية كبيرة جدًّا ومستمرة، وما كان يصلح أميركيًّا لخدمة مكانة الولايات المتحدة في عام 2006 وقبله لم يعد صالحًا بعده؛ فالعالم انتقل فعلًا إلى سياسة الأقطاب، وما راكمته القوى المستهدفة صهيو ـ أميركيًّا في المنطقة والعالم من قوة وخبرة عسكرية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية كفيل بوضع حد للعنجهية الصهيو ـ أميركية.. فكوريا الشمالية لا أحد يتصور أنها ستنزع سلاحها النووي بعدما نجحت في تطوير الصواريخ البالستية القادرة على حمل الرؤوس النووية، وهو السلاح الذي يفرض هيبتها واحترامها، ويحقق أمنها القومي، لا سيما وأنها أمام تجارب كارثية في العراق وليبيا وسوريا، ولا أحد يتصور أن إيران ستموت جوعًا إن فرضت عليها عقوبات اقتصادية مجددًا، وهي التي نجحت في مقاومتها والتغلب عليها طوال ثلاثين سنة، كما أن الحرب عليها لن تكون نزهة لمن يقوم بها، والمقاومة اللبنانية (حزب الله) اليوم ليست كما كانت في صيف 2006، من حيث فارق القوة والخبرة وتنوع السلاح وفعاليته، وإذا كان ترامب يراهن على ما حلبه من أموال العرب لتنشيط اقتصاد بلاده، في كسب تأييد شعبي أميركي في شن حروب جديدة، فهذا أيضًا لن يكون خصوصًا بعدما شاهد توابيت الأميركيين جثامين أبنائهم تعود كل يوم من العراق وأفغانستان.

خميس بن حبيب التوبي
[email protected]