[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/ibrahim.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]ابراهيم بدوي[/author]
” إن النموذج الأوروبي على الرغم من الازدواجية المعيارية التي يتعامل بها، والبون الشاسع بين سياسته الداخلية وما بها من قيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وحق التعليم والصحة..إلخ، وما بين سعيه من أجل مصلحته لحرمان شعوب أخرى من حق الحياة ذاته، يظل بيانا لنا ورؤية نستطيع عبرها إيجاد نموذج إسلامي عربي خاص بمجتمعاتنا، ”

نجحت أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن في ترميم دولها، ومضت خطوات عميقة نحو الوحدة، ولم تجرِ على أراضيها معارك حقيقية منذ الحرب، مما يوضح أن القارة العجوز تعلمت الدرس جيدا، ومضت في طريق ديمقراطي يعبر عن طموحات شعوبها في العيش بسلام، لدرجة جعلت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي معضلة لكافة الأطراف، فيما يتواصل السعي التركي إلى الانضمام إلى هذا الاتحاد، رغم الطموحات الأردوغانية العثمانية، لكن يبقى هذا الاتحاد الذي رفضه البريطانيون وطالبوا بالاستقلال، فيما ترغب حكوماتهم إلى خروج آمن أو لا خروج، أو كما ترغب المعارضة البريطانية في منع الخروج دون إتفاق، فالعماليون وحلفاؤهم يسعون إلى التصدي إلى سياسة (إما القبول بالاتفاق أو لاشيء)، فيما يسعى باقي قادة أوروبا إلى تغريم بريطانيا ثمنا باهظا لسعيها للخروج، وفرط عقد الاتحاد النموذجي، كما يراه العالم، مما يسد الطريق أمام الشعوبيين في دول أوروبا، من السعي إلى الخروج، الذي يراه البعض سيعيد القارة التي طالما خضبت بالدماء خلال مدى واسع من تاريخها، إلى عهد لاتسعى إلى تذكاره، حيث كان الصراع العسكري، هو الحل الأسهل وقتها.
إن التجربة الأوروبية على مداها الزمني، تعطي دروسا عديدة لشعوب العالم، هم الآن في أحوج ما يكونون إليها، فبعيد دورها الاستعماري الكبير، الذي جلب العديد من الحروب في كافة أرجاء المعمورة، عادت أوروبا بعد تجربة مريرة لتنكفئ على نفسها، وتبدأ نموذجا تنمويا اهتم بالإنسان (الأوروبي)، وبدأ في إعادة تأهيله بعيدا عن العنجهية الاستعمارية، وصنع نظام حقيقي، كانت فيه عائدات التنمية تصب في جيوب المواطنين، وتصنع الفارق في الملفات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وإصبح الساسة إلى حد بعيد من زعماء، إلى مجموعة من الموظفين الذين يستمدون شرعيتهم، من مدى تقيدهم بالنظام والقوانين، حالة لا نستطيع انكارها تحولت بفضلها القارة خاصة عواصمها الكبرى من أكبر جاذب للأمراض والفقر قبل الحرب العالمية، إلى حواضر يسعى جميع مواطني بلدان العالم للعيش في ظلها، وبدأت نوعا من الهجرة العكسية نحو القارة التي استفادت من صراعتها، بدلا من الهروب منها.
وبرغم أن السياسة الخارجية الأوروبية ظلت إلى حد كبير بعيدا عن الالتزام الأخلاقي، إلا أن السياسة الداخلية استطاعت أن تجمع كافة عرقيات أوروبا داخل منظومة ديمقراطية تميزت عن غيرها من الديمقراطيات حول العالم، بعرض قماشتها كما يقولون، ففي أوروبا هناك مكان لليمين المتطرف، كما أن هناك عدم استبعاد لأقصى يسار الشيوعية، قواعد وضعت إيمانا منهم وثقة في وعي المواطن الأوروبي، وقوة الأنظمة القانونية التي وضعت، بأن خيار الشعب سيظل يدور في الوسط من اليمين إلى اليسار، لتكون التشنجات بصعود اليمين هنا أو هناك، مؤشر لوجود خلل ما في المنظومة الاجتماعية، يسارع الساسة بشكل جريء في معالجته، مع إبقاء الحظوظ في الديمقراطية للجميع، لدرجة جعلت ممن يعلنون أوروبا ليلا ونهارا، يسعون إلى الحصول عى الإقامة والعيش في ظل القيم الداخلية التي رسخت، فيما بعد الحرب العالمية الثانية.
لست بصدد وصف أوروبا كنموذج لليوتيوبيا، لكننا نستعرض حالة من الصراع الأوروبي رزحت به القارة وسعت الأطراف إلى حلول الاجتثاث، والتوجه بالصراع لطريق مسدود من محاولات القضاء على الآخر، فبدأت الصراعات الأوروبية محلية أو حربا أهلية بين الأعراق والمذاهب الدينية المختلفة، واستمرت في بعد الأحيان عقودا من الزمن، لتتكون الدول، وتبدأ في مراحل جديدة من الصراع تسعى إلى السيطرة والنفوذ واجتثاث الآخر، باختصار عاشت أوروبا سنوات من الدماء تتشابه لحد بعيد مع ما نعيشه في منطقتنا المنكوبة الآن، ووصل الأوروبيون إلى نتيجة واحدة، أن أفضل ضمانة لبقاء الإنسان والإنسانية، يكمن في تقبل الآخر وفتح الآفاق لكافة الأطياف والفئات، وإقامة دول تقوم على أسس المواطنة، كقيمة كبرى، تخرج بينها التباينات والاختلافات، بشكل يتقبله المجتمع، ويستطيع العيش فيه، منظومة راهنت على الإنسان وحياته، بدلا من الدخول في صراعات تقضي على مستقبل البشرية.
إن النموذج الأوروبي على الرغم من الازدواجية المعيارية التي يتعامل بها، والبون الشاسع بين سياسته الداخلية وما بها من قيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وحق التعليم والصحة..إلخ، وما بين سعيه من أجل مصلحته لحرمان شعوب أخرى من حق الحياة ذاته، يظل بيانا لنا ورؤية نستطيع عبرها إيجاد نموذج إسلامي عربي خاص بمجتمعاتنا، يسعى لحماية الإنسان ومكتساباته، ويتقبل الاختلاف والخلاف، في ظل مجموعة من القيم والقوانين التي تعطي الحق في حمل السلاح للدولة حصريا، ومحاسبتها إذا استخدم هذا الحق في غير إطار قانوني، إنه الحل الأقرب للخلاص من صراعتنا في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس... والقوس لا يزال مفتوحا، إلا إذا أصرينا على صراع البقاء وفق الإدارة الحالية للصراع، أو أنه سيغلق ويقل الضرر الناتج عبر سياسة تتسع الجميع داخل الدولة الواحدة، ويعي كافة أطرافها أن البقاء سيكون للجميع، أو الفناء سيكون هو المصير، ومن ثم سعي حقيقي تنموي نحو الوحدة المأمولة التي تصب في خير كافة الشعوب، فهل نتخذ من المعاناة التي عشناها في العقود الأخيرة، مدخلا لبناء تجربتنا التي ستكون نموذجا عالميا إنسانيا سيعمم في بؤرة من بؤر الصراعات حول العالم، أم نظل رهائن صراع ستفنى به مقدرتنا البشرية والمادية، وسيخلق هوة لا نعلم جديا متى ستردم بفضل نزيف الدماء الدائر.