الحلقة الأولى
إن من السجايا التي يعرف بها المؤمن وتدل على علامة التقول ودليل الشكر وعزيمة المتوكل وسبب من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة الصبر على المصائب والرزايا والبلايا والرضا بمر القضاء والتسليم لأمر الله فإن كل ما يصيب الإنسان إنما هو بأمر الله وقضائه وقدره جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم { عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس لك لأحد إلا للمؤمنين إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له } والصبر يدل على كمال الإيمان وحسن الإسلام وعلامة توفيق الله لعبده الصبر وبعد الصبر على المصائب واجب من واجبات الدين جاء في الحديث الشريف { لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطاه لم يكن ليصيبه } ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال { الإيمان : الصبر والسماحة وقد امتدح الله تعالى عباده الصابرين وأثنى عليهم ورفع من منزلتهم في كتابه العزيز قال تعالى { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يشهد قلبه } قال علقمه بن قيس { هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم } وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ما ذا قال عبدي ؟ فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد } ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال { يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنه } وكما قيل من صبر ظفرا افهذا بني الله يعقوب عليه الصلاة والسلام صبر على فراق ولده يوسف أكثر أكثر من أربعين سنه حتى قال { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } فكانت النتيجة أن رد الله له ولده نتيجة صبرة قال بعض السلف {من لم يرض بقضاء الله وقدره فليس لحمقه دواء } وقال قائلهم في ذلك :
تعز بحسن الصبر عن كل هالك ففي الصبر مسلات الهموم للوازم
اذا انت لم تسل اصطباراً وحسية سلوت مع الأيام مثل البهائم
وليس يزود النفس عن شهواتها من الناس إلا الأكل ماضي العزائم
وإن المتفكر والمتدبر يجد أنه لا لملك من أهره شيئاً أبداً ولا يستطيع رد القضاء فكل ما عنده من مال وصحة وولد إنما دواعي ورائع الله تبارك وتعالى ولا بد ليوم أن ترجع هذه الودائع بالقضاء والقدر فسيخط على الله ويتلفظ بكلام ربا يرميه في جهنم سبعين خريفا ومن جملة ذلك يقول ماذا فعلت في ربي حتى يقبض روح ولدي أو يأخذ مالي أو صحتي فيتهم الله عز وجل في قضائة من النساء من تلطم الخدود وتشق الجيوب ويدعون بالويل والثبور عند المصائب وإن كانت مصيبة هنية فهؤلاء نسوا أو تناسوا ملحمة الإبتلاء التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقها { من يرد الله به خيراً يصيب منه حزن ولا أذى ولاغم حتى الشوكة شاكها الا كفر الله بها خطاياه ولا ريب أن الحياة الدنيا مسرح للمصائب والإبتلاء وميدان من ميادين المحن فهذا هو الحال الدنيا فينبغي للمرء أن يوطن نفسر لأنه لا يسلم فيها أحد مهما كان قادرة ومنزلته عند الله فإذا اعلت أو كست وإذا اعطيت قليلاً أخذت كثيراً والإنسان فيها لا حيلة له ولا قوة فلا يقوى على جلب منفعة أو دفع ضر الا بما اكتسبه الله له أو عليه والحل هو توطين النفس على الصبر والمصابرة قال تعالى { يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطو } والصبر هو أسمى غاية يسعى المسلم إلى تحصيلها ليلقى درجتها عند الله جل وعلاء يقول الشاعر
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه على نائبات الدهر حتى تنوب
وضرب الصالحون أروع الأمثلة في الصبر وأعلى النماذج الإيمانية والأنبياء الذين هم صفوة الخلق وقدوة الناس إبتلاهم الله تعالى فصبروا فهذا لنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه قومه من مكة المكرمة أحب البقاع إلى الله وإليه صبر ولم يأنف من الحياة فلقاه الله أجر صبره وهيأ له من ينصره وهم أهل المدينة وبعدها مكنه الله من رقاب القرشين فدخل الناس في دين الله تعالى أفواجا وهذا نبينا أيوب عليه السلام ضرب المثل الأعلى في صبره حينما إبتلاه الله تعالى بالجدري وقال { رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } ومات أولاده وأضمحل رزقه ومع هذا صبر وعوضه الله ما فقده من مال ونبين بصبره وروي أنس بن مالك رضي الله عنه قال : { اشتكى ابن لابي طلحة فمات وهو خارج البيت فقالت أم سليم رضي الله عنها لا خبر أحد أبا طلحة بوفاة ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له فهيأت الصبي وكفنته ووضعته في جانب البيت فلما جاء أبو طلحة دخل عليها فقال كتف أبني قالت يا أبى طلحه ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة فأتت بعشائر ثم تجملت وتطيبت فلما أصاب منها ما يصيب الرجل إمرأته وكان آخر الليل قالت يا أبا طلحة أرأيت لو أن لهم أن يمنعوهم فقال لا قالت فإن الله عز وجل أعارك ابنك عارية ثم قبضه إليه فاحتسب واصبر فغضب عليها ثم استرجع فحمد الله فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهما تلك الليلة فقال صلى الله عليه وسلم بارك الله لكما في غابر لبيلتكما فحملت منه ثم أنجبيت غلاماً لم يكن في الأنصار شاب أفضل منه } وقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما شقه وأولاد كلهم قد حفظوا القرآن } وهذه المرأة ضربت أروع الأمثلة وأحسنها في الرضى بما قدر الله لها وأحسنت التصرف بحنكة وذكاء وأدب يفقده كثير من الرجال والسناء فرفع الله ذكر هذه المرأة وأصبحت مدرسة من مدارس الصبر والفداء ومن أمثله الصبر السيدة الخنساء تما ضر بنت عمرو رضي الله عنها حين حضرت معركة القادسية ومعها بنوها الأربعة فقدمتهم جميعا للقتال في سبيل الله عزوجل ووعظتهم وحرضتهم على البلاء في ذات الله سبحانه ولفرديته واعلى كلمة لحق والثبات وعدم الفرار قائلة لهم : إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وأنكم والله لأبناء أب واحد وأم واحده والله ماخنت أباكم ولا فقبحت أخوالكم فلما أصبحوا باشروا القتال واحد ابعد شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته فما أعظم صبر هذه المرأة بعد أبنائها والأربعه من حين أنه لما كانت في الجاهلية على غير هذا الحال قتل أخوها لابها واسمه صخر فنظمت في بكائه من الأشعار ما قطع ولافئدة
يذكروني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غرويب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على أخوانهم لقتلت نفسي
ومع هذا يجب على المسلم أن يستفيد من مدرسة الصيام إذا نها مدرسة خصبة ليقود الناس وتعليمهم الصبر عند المصائب ورضائهم بما قدر الله تعالى لهم في حياتهم ... يتبع

منذر بن عبدالله السيفي