{ قـالـوا: إنا كـنا قـبـل في أهـلنا مشـفـقـين }

فإن الإيـمان بالـيـوم الآخـر ، لـه مـغـزاه ومـرماه في فـضـل المـراقـبة الـدائـمة عـن الانحـراف والسـلـوك غـير السـوي ، وقـول المـؤمنـين : { قـالـوا: إنا كـنا قـبـل في أهـلنا مشـفـقـين } ، يـدل عـلى المـراقـبة الـدائـمة ، والضـمـير المـتيقـظ ، فـنـفـعـهـم ذلك التيـقـظ وتلك المـراقـبة ، يـوم الـقـيامة.
وإشـفاقـهـم هـذا دفـعـهـم إلى أن يـدعـوا الله الـبر الـرحـيم ، ولكـن دعـاءهـم هـذا كان مشـفـوعـا بالعـمـل الصالح ، والإخـلاص في القـول والعـمـل ، لـم يكـن مجـرد دعـاء بـدون عـمـل ، لأن الـدعـاء الـذين لا يـقـترن بالعـمـل الصالح والاخـلاص لا يـغـني شـيئا ، وإنما يكـون العـمـل بالاسـتجـابة الكـاملة لله تعالى ، بامـتـثال أوامـره واجـتـناب نـواهـيه ، وهـذا فـضـل استجـابة الـدعـاء.
فالـويـل كل الـويـل لمـن كان لا يخـاف عـذاب الآخـرة ، وأهـل الجـنة يـقـولون : {إنا كـنا قـبـل في أهـلـنا مشـفـقـين}، وهـم في مجـالس لهـوهـم وحـبـورهـم وسـرورهــم في الجـنة يـتـذاكـرون ، ما كانـوا فـيه مـن نعـمة ومتعـة بـين أهـليهـم وذويهـم في الـدنيا ، وإذا نظـرنا إلى ما قاله المتـقـون في سـورة الطـور، وأضـفـنا إليه ما قالـوه في سـورة الـذاريات اكـتملت الصـورة الحـقـيقـية في عـين مـن أراد أن يـكـون مـن المـتـقـين، ويـكـون مـمن يـرجـو رحـمة الله ويخـاف عـذابه ، ممن يـفـوز الفـوز المـبين.
وقال الله تعالى:{ وأما مـن أوتي كتـابه وراء ظهـره ، فـسـوف يـدعـو ثـبـورا ويصلى سـعـيرا ، إنه كان في أهـله مسـرورا ، إنه ظـن أن لـن يحـور } (سـورة الانـشـقاق 10/14)، والقـرآن الكـريـم يـفـسـر بعـضه بعـضـا بطـريـق التقابـل أو التضـاد، بـين أهـل الجـنة وأهـل النار، فـتـؤيـد الآيـة الأولى الآيـة الأخـرى ، فـتظهـر الصـورة جـلية واضحـة لمـن أراد الحـقـيـقة.
وقال الله تعالى:{وأما مـن أوتي كـتابه بـشماله} (سـورة الحـاقـة 52)، فـلماذا جـاء هـذا مـعـدولا عـنـه في سـورة الانـشـقـاق حـيث قال تعالى : { وأمـا مـن أوتي كـتابه وراء ظهـره } (سـورة الانـشـقاق 10)، ذلك لأن الإنـسان إذا كان مستبشـرا بما يـعـطـى ، فإنه يـمـد إليه يـده اليمـنى فـرحـا به ومسـرورا ، وتـلك حـال المـؤمـن الطـائع المخـلص ،الـذي يـؤتى كـتابه بيمـينه يـوم القـيـامة ، فـتـرى عـلامات الـسعـادة تـبـدو عـليه ، إذ يظـهـر عـلى كـتابه نـور.
أمـا الكـافـر فـلا يمـد يـده إلى كتابه لما يـعـلم مما فـيه مـن الخـزي والعـار إلا متـباطـئا ، لأنه يـرى الشـر باديـا عـليه مـن كل جهـة ، وإذا مـد يـده لـيأخـذ كـتابه يمـد له يـده الـيسـرى، أو يأخـذ ه مـن وراء ظهـره ولا يـريـد أن يـرى كـتابه ، لـعـلمـه بمـا فـيه مـن إبـداء المسـتـور وكأنه لا يـود أن يـلـتـفـت إلى كتابه ولـو مـجـرد الـتفـاتـة أو نـظـرة سـريـعـة ، وهـذه حـكـمـة الجـمـع بـين الصـورتـين. فالكافـر يأخـذ كـتابه بشـماله أو مـن وراء ظـهــره راغـما مـرغـما ، وعـنـدئـذ يـدعـو بالـويـل والثـبـور ، والحـسرة والنـدامـة ، ولـو كان الأمـر راجـعـا إلـيه ، وكان مخـتارا في أمـره ، لمـا مـد يـده ليأخـذ كـتابه ، والشـاهـد مـن الآية قـوله تعالى:{إنه كان في أهـله مـسرورا} سـورة الانـشـقـاق، فـسـرور الـدنيـا يـنـقـلـب حـزنا وأسـى.
أخـي المـؤمـن انـظـر إلى هـذا الـتقـابـل بـين الآيـتـين : فـفي المـؤمـنين قال الله تعالى فـيما أخـبر عـنهـم: { إنا كـنا قـبـل في أهـلنا مشـفـقـين } ، وقال في شـأن الكـافـرين:{ إنه كان في أهـله مسـرورا } ، إنه تقـابـل بـديـع في صـورته بـين كل كلمة وأخـرى، فالـذي كان في الـدنيا مـسـرورا في أهـله ، لـم يـكـن يتـفـكـر في أمـر الآخـرة، ولـم يكـن يخشى الـوقـوف بين يـدي الله ، بالـرغـم مـن أمـر الله تعالى ، الـذي أمـر وحـض بالخـوف مـن ذلك الـيـوم العـظـيم ، الـذي لا ينـفـع فـيه مال ولا بـنـون، إذ قال تعالى : { واتـقـوا يـومـا تـرجـعـون فـيه إلى الله ، ثـم تـوفى كمل نـفـس ما كسـبـت وهـم لا يظـلمـون } (سورة البـقـرة 281)، أما المؤمنون فـقال الله تعالى في شأنهـم : { يـوفـون بالنـذر ويخافـون يـوما كان شـره مسـتطـيرا، ويطـعـمـون الطـعـام عـلى حـبه مسـكـينا ويـتيمـا وأسـيرا، إنـمـا نـطـعـمـكـم لـوجـه الله لا نـريـد مـنـكـم جـزاء وشـكـورا، إنا نخـاف مـن ربـنا يـوما عـبـوسـا قـمـطـريـرا ، فـواقـهـم الله شـر ذلك اليـوم ولـقاهـم نـظـرة وسـرورا، وجـزاهـم بما صـبروا جـنـة وحـريـرا } (سـورة الإنسان 7/12).
فـسبب سـرور المـؤمـنـين في الجـنة ، أنهم كانـوا في أهـلهـم مشـفـقـين ، وكانـوا يــدعـون ربهـم أن يحـفـظـهـم مـن شـر ذلك اليـوم ، يـوم القـيامة ، وأما الكـافـرون فـسـبب شـقائهـم أنهـم كانـوا في أهـلهـم مسـرورين ، وقــد غـلب عـليهـم الفـرح بالحـياة الـدنيا الفانية، والتمـتـع بـزهـراتها، فـكانـوا لا يخـافـون ذلك الـيـوم العـظـيم، يـوم القـيامة، بـل كانـوا لا يتــذكـرونـه، لأنهـم يظـنـون أنهـم لا يبـعـثـون بـعــد مما تهـم ، ولا يـرجـعـون إلى الله ، وهـذا معـنى قـوله تعالى : {إنـه ظـن أن لـن يحـور} في حـين يـقـول الله تعالى:{إلي مـرجعـكم جـميـعـا } (سـورة المائـدة 48)، ويـقـول:{ألا إلى الله تصـير الأمـور} (سـورة الـشـورى 53)، وإذا كانـوا لا يخـافـون يـوم القـيامة ، ولا يتـذكـرونه ، فهـم بالطـبـع لا يعـملـون الأعـمال التي تـدفـع عـنـهـم شـر ذلك الـيـوم ، ولا يـدعـون الله أن ينجـيهـم مـن ويـلاته.
وهـكـذا يـكـون حـال المـؤمـن الاشـفـاق ، مـن عـذاب يـوم القـيامة ، والتضـرع إلى الله وهـو في أهـله ، لا ينـقـصه شـيء مـن الطـيبات مـن الـرزق ، ولا يـكـون الـدعـاء والتضـرع طـبـعـا إلا بعـد أداء الـواجـبات وتـرك المحـرمات، وهـذا ما عـبر عـنه الله تعالى بـقـوله: {إنا كـنا قـبل في أهـلنا مشـفـقـين}.
وحـال الكـافـر السـرور ونسـيان لـقاء الله الـذي عـبر عـنه الله تعالى بـقـوله : { إنه ظـن أن لـن يحـور}، وهـكـذا ينبـغي البحـث في القـرآن الكـريـم عـن أمـثـال هـذه الـتـقا بـلات ، وتأييـد بعـض الآيات للـبعـض بطـريـق التضـاد أو التـقـابـل ، لأنـه يـعـين عـلى فـهـم كـلام الله المعـجـز، والـذكـر بآياتـه والاعـتبـار بأحـكامـه.
قال الله تعالى:{فــذكـر فـما أنـت بنـعـمـة ربـك بـكاهـن ولا مجـنـون} (ســورة الطـور 29)، ينـتـقـل الله تعالى اعـتبـارا مـن هـذه الآيـة إلى سـياق آخـر في سـلسـلة مـن الآيـات الـبـينات المحـكـمات ، التي يتحـدى بهـا الله الكـفـرة المشـركـين ، ويسـخـر مـنهـم سـخـرية لاذعـة ، صـاغـه في أسـلـوب تسـاؤلات، بـلـغ عـددهـا خـمسة عـشـر تـساؤلا ، بـدأهـا كلها بقـوله : { أم 00 أم00 أم } .
فـبعـد أن ذكـر حـال أهـل النار وذكـر حـال أهـل الجـنة ، قال لـرسـوله صـلى الله عـليه وسـلم: {فـذكـر} التـذكـير مـعـروف يـعـني : عـظ الناس يا محمد ، وادعـهـم إلى سـبيـل ربـك بالحـكمة والمـوعـظـة الحـسنة ، وتحـمـل مـن ردود الفـعـل لـدى المنـكـرين ، ويشـبه قـوله هـذا ما ورد في ســورة الـذاريات حـيث قـال تعالى:{فـتـول عـنهـم فـما أنـت بمـلـوم وذكـر فإن الـذكـرى تنـفـع المـؤمنـين } (الـذاريات 54/55).
فـبـعـد أن قـص الله عـلى رسـوله صلى الله عـليه وسـلم خـبر الفـريـقـين، فـريـق الكـافـرين وفـريـق المـؤمنـين ، وهـذا التـقـابـل هـو تقـابـل تأييـد وتـوافـق فـتـول عـن الكـفـرة الـذين أعـرضـوا عـنـك ، ولـم يـقـبـلـوا مـنـك ما جـئتهـم به ، فـلسـنا نـلـومـك لأنـك قـد بلغـت الـرسـالة وأديـت الأمانـة ، ونصحـت الأمـة وكشـفت الغـمـة ، فـداوم عـلى تـذكـيـرك فإن الـذكـرى تنـفـع المـؤمنـين ، وتهـدي مـن أراد الله هـدايته ، قال تعالى:{إنـك لا تهـدي مـن أحـببت ولـكـن يهـدي مـن يـشاء وهـو أعـلـم بالمهـتـدين } (سـورة القـصص 56).
لـقـد أمـر الله تعالى نبيـه بالإعـراض عـن المشـركـين مـن جهـة، وبمـواصـلة الــذكـرى مـن جـهـة أخـرى ، فهـو يـقـول له : لا تقـل أيها النبي لـقـد ذكـرتهـم ولم يـقـبـلـوا مـني ، وإذن ادع تـذكـيرهـم كـلا، بـل واصـل تـبلـيـغ دعـوتـك وتابـع نـشـر رسـالتـك ، فإنـما عـلـيـك البـلاغ لـتـقـوم الحـجـة عـلـيهـم.
كـذلك قال له هـنا في سـورة الطـور : { فـذكـر فـما أنـت بنـعـمـة ربـك بـكاهـن ولا ومجـنـون} ، يعـني : لا يـردك ولا يمنـعـك عـن الـتـذكـير وصـفهـم إياك بالكهـانـة والجـنـون نحـن نـعـلم أنهـم يـقـولـون فـيـك : إنـك كاهـن وإنك سـاحـر وإنك لمجـنـون ، وإنك شـاعــر ، لـكـنـك لـسـت كـذلك بـفـضل ربـك .
.. وللحـديث بقـية.

ناصر بن محمد الزبيدي