الجزائر-العمانية:
قريباً من مسجد كتشاوة العتيق، الذي أُعيد ترميمه وافتتاحه أخيراً بحي القصبة، يقع مقهى مالاكوف، وهو من أهمّ معالم الجزائر المحروسة بالنظر لما له من تاريخ حافل بالأحداث والذكريات.
خلال الأشهر الأخيرة، شهدت بعضُ الأزقّة المكوّنة لحيّ القصبة الشعبي، عمليات ترميم واسعة مسّت الكثير من العمارات بجوار محطة الميترو بساحة الشهداء، لكن يبدو أن أحداً لم ينتبه إلى ما حلّ بمقهى مالاكوف؛ فهو موصد الأبواب منذ أكثر من سنتين بسبب نزاع بين الورثة.
يستمدُّ هذا المقهى قيمته التاريخية من كونه شكّل على مدى أكثر من قرن من الزمان، ملتقى للفنون الموسيقية الشعبية، حيث يؤكد بعض المؤرخين أنّ أهمّ المصنّفات الموسيقية في الفن الأندلسي المعروف بالجزائر العاصمة وعدد من الحواضر على غرار تلمسان وقسنطينة والبليدة، انطلقت من مقهى مالاكوف سنة 1890 مع الشيخ محمد سفينجة، وهو أحد أهمّ رواد مدرسة الصنعة. كما عرف المقهى، على مدار سنوات طويلة، أهمّ قعدات (حفلات) موسيقى الشعبي التي كان يُحييها شيوخ هذا الفن، خاصة خلال شهر رمضان.
وفضلاً عن ذلك، وُلدت بين جدران المقهى الموسيقى العاصمية، التي عُرف بها الحاج امحمد العنقى، وقد استلهمها بدوره من معلّمه الشيخ مصطفى نظور.
وعاش الفنان الحاج امحمد العنقى (1907-1978) حياته مُحاطاً بأهمّ شيوخ موسيقى الشعبي أمثال الحاج مريزق (1912-1955)، وبوعلام تيتيش (1908-1989)، وبوجمعة العنقيس (1927-2015).
يقع مقهى مالاكوف أسفل فندق وأروقة تحمل الاسم نفسه، نسبة إلى “إيمابل جان جاك بليسييه أول”، دوق مالاكوف (1794-1864) الذي كان مارشال فرنسا والحاكم العام للجزائر في الفترة ما بين 1860 و 1864.
وخلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، ظلّ المقهى مكاناً يلتقي فيه المجاهدون بعيداً عن أعين السلطات العسكرية الفرنسية، كما شكّل ما يُشبه المتحف الصغير بما ضمّه من صور نادرة لأهمّ الفنانين والموسيقيين الجزائريين.
وفي أربعينيات القرن الماضي، قام الفنان الحاج امحمد العنقى بشراء المقهى من مالكه الحاج مريزق، ومنحه بُعداً شعبياً من خلال الحفلات التي كان يُحييها بشكل شبه يومي، وكانت تلك الفترة بمثابة العصر الذهبي لمقهى مالاكوف، حيث صار قبلةً لهواة الموسيقى الشعبية، ومدرسة للشباب الذين يقصدونه لتعلُّم هذه الموسيقى من شيوخها وأساتذتها الكبار.
وبوفاة الفنان الحاج امحمد العنقى سنة 1978، آلت ملكية المقهى إلى مواطنٍ حاول المحافظة على روح المقهى وهويته كمقصد للفن والفنانين، وهو الأمر الذي لم يدم طويلاً بسبب رحيل أشهر وجوه الفن الأندلسي والشعبي في الجزائر.
وبرحيل المالك الجديد للمقهى سنة 2014، حاول أحد أبنائه إحياء المقهى بتزيينه بصور أخرى لعدد من الفنانين والموسيقيين وإعادة تهيئته بما يتلاءم واهتمامات الأجيال الجديدة من الشباب. كما قام سنة 2015 بالاستعانة بإحدى الفرق الموسيقية لإنعاش المقهى وتنشيط سهرات شهر رمضان، وقد أثمرت هذه الخطة ببث الروح من جديد في هذا الصرح الثقافي والفني العاصمي.
لكنّ هذه المرحلة لم تُعمّر طويلاً بعد نشوء خلاف بين ورثة المقهى، وهو الأمر الذي أدّى إلى إغلاقه إلى أجل غير مسمّى. وقد دفعت هذه النهاية المأساوية لمقهى مالاكوف بعض المثقفين إلى توجيه نداءات لحماية هذا الإرث الثقافي وإعادة فتح أبوابه ليبقى شاهداً على واحدة من أهمّ حلقات تاريخ الجزائر المحروسة.