الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ،،

ثانيا : أثر القرآن في البناء العلمي:
إن المتأمل للمسيرة العلمية لأعلام الإسلام وعلمائه، والمتتبع للنشأة العلمية يبدو له جلياً وبوضوح أنهم أَصَّلوا ذلك العلم، وأسسوا ذلك البناء، ومكنوا بناءهم العلمي بحفظ كتاب الله، ذلك أنه أصل العلوم الشرعية وغيرها، وإليه تعود في استدلالها، وعليه المعول في تأصيلها، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين"، ورواه شعبة عن أبي إسحاق عنه قال:"فليثوِّروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين"، وبنظرة فاحصة للقدرة العلمية لأعلام القراء يظهر جلياً التفوق العلمي في عدد من العلوم المختلفة، ومن أشهر قراء الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فهو من أجود الصحابة قراءة، وقد تلقى من فيّ النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وشهد له الصحابة بذلك، وقد أثبت ذلك لنفسه فقال رضي الله عنه:"ولقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله"، ويقول مؤكداً ذلك:"ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت"، وشهد له بذلك أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقال:"ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ترك أحداً أعلم بكتاب الله من هذا القائم " ، وفيه قال المصطفى صلى الله عليه وسلم :"من أحب أن يقرأ القرآن غضاً – وفي رواية رطباً - كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد"، ووصفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:"كنيف مليء علماً"، ولما قدم عليٌ رضي الله عنه الكوفة أتاه نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسألهم عنه حتى رأوا أنه يمتحنهم فقال:"وأنا أقول فيه مثل الذي قالوا؛ وأفضل، قرأ القرآن وأحل حلاله وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة"، ولما سئل عليٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"عَلِمَ الكتاب والسنة" ورُويَ أن أبا موسى الأشعري سئل عن شيء في الفرائض فقال:"لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم"، فهو من أفقه الصحابة وأعلمهم بالتفسير، وقد انتهى علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ستة هم: علي وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد وأبي الدرداء وأُبيّ، وانتهى علم هؤلاء إلى اثنين هما علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، قال الشعبي:"ما دخل الكوفة أحدٌ من الصحابة أنفع علماً ولا أفقه صاحباً من عبد الله" ، والخلاصة أن عبد الله بن مسعود رضي الله من كبار قراء الصحابة رضوان الله عليهم، وقد بلغ علمه وفقهه مبلغاً عظيماً، وذلك دليل على أن أصل ذلك البناء العلمي الرفيع والتأصيل المتين هو حفظ كتاب الله تعالى وفَهْمُ معانيه.