[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
تجيب الهوية الوطنية في أبسط تعريفاتها عن سؤالين: بماذا أتميز، وكيف أنافس فيما أتميز فيه؟ وبالتالي فهي ليست عبارات مجردة أو كلمات مختارة أو مجرد إعجاب وتفاخر بالخصوصية والمبادئ الوطنية، بل تمثلها في قوة الشخصية العمانية والتزامها وانضباطها وأخلاقياتها وتسامحها، ترتسم في سلام المواطن مع ذاته والآخرين واقترابه من المنهجية في التفكير والابتكارية في الممارسة والقوة في التأثير، والوعي بالتحولات والتعامل مع المخاطر المؤثرة على الهوية واستيعابه لضرورات العصر واحتياجاته والاستجابة لمعطياته في ظل اثبات حضوره فيها وفهمه لمغازيها وأهدافها فيبقى واعيا حريصا على أن تكون له بصمة إيجابية في إعادة صياغة منتجها، في استخدامه الراقي لشبكات التواصل الاجتماعي والتوظيف السليم للتقنية، فيضمن لهويته الاستقامة في المنهج، بما يجنبه مخاطر الإشاعة أو يدخله في متاهات التشدد المعرفي والتذبذب الفكري.
وفي ظل محيط اجتماعي يتعايش فيه المواطن مع ثقافات مختلفة وعادات متنوعة، يبقى تأثير الأيدي العاملة الوافدة التي تشكل ما نسبته 45% من مجموع عدد السكان ماثلا أمامه، بما يضع الهوية الوطنية أمام رهان قادم قوامه كيف نستثمر في المواطنة ونبني الإنسان؟ فيعي دوره ويدرك مسؤولياته في الحد من إعطاء هذه الفئة مسوغات هذا التواجد غير المبرر في بعض الأحيان، خاصة في الأنشطة التجارية والاقتصادية التي يمكن للمواطن أن يعمل بها، بالإضافة إلى امتلاكه مساحات أكبر للأمان الشخصي والفكري والأسرى في مسألة الاختلاط مع هذه الفئة، وأثر ذلك في لغته التواصلية والخطابية معها، أو الحد من تدخلها في تشكيل مفردات حياته اليومية، أو كذلك من خلال المتابعة والوقوف على حقيقة ممارساتهاالتجارية، وتعاملها مع الثروات الوطنية كاستخدام المياه أو استغلال الأماكن والمتنزهات أو حالات التخريب والتشويه للبيوت الأثرية كونها أماكن سكنى هذه الفئة في بعض الولايات، وفي المقابل تأصيل معادلة التوازن الاسري ودور الوالدين في بناء الأسرة وحدود تدخلات عاملات المنازل في تربية الأبناء، وتعميق الحوار الأسري في بناء فكر الأبناء وتعليمهم القيم والمبادئ والأخلاقيات الأصلية النابعة من ديننا الإسلامي وهويتنا العربية الإسلامية، أو تلك الممارسة المرتبطة باللباس الوطني كالدشداشة والكمة والمصر والخنجر.
إن الهوية الوطنية بذلك قراءة واعية طموحة للوطن والمفردات والنماذج والموجهات التي تشكل قيمته في الذات، وقناعاته التي تنعكس على طريقة تعاطيه مع منجز وطنه وتفاعله مع فلسفة التطوير وتناغمه مع منتج التنمية الوطنية وحرصه على أن يحفظه ويحافظ عليه ويستثمره ويوجهه لصالح الوطن والمواطن بما ينعكس على ولائه وانتمائه وطريقة حصوله مع حقوقه، وبالتالي فهي ليست جواز سفر عابر يلتزم بها لكونه في حدود البلد ويتراجع عنهاعندما يكون في غيره، بل في حجم من يحمله المواطن من رسالة الوطن وقيمه وأخلاقياته الداعية للتسامح والحوار وجمع الكلمة وحب التغيير وتصالحه مع نفسه والآخرين وسمحه في بيعه وشرائه وطريقة تعبيراته ورصده وتشخيصه لمشاهداته اليومية.
ومع التأكيد على أهمية أن يمتلك الأجيال ثقافة الاعتزاز بالوطن ورموزه وموقعه في سلم الحضارة الإنسانية، فيفتخر ويفاخر بما قدمه أبناء عمان في عصور التاريخ والبصمات التي تركها الانسان العماني في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه، حيث الموانئ التي أنشأها العمانيون في محيطات العالم وبحاره، والتراث الحضاري الذي أسسوه، أو المراجع العلمية العمانية في علوم اللغة والطب والهندسة أو في مجال التجارة العالمية، والامبراطورية العمانية الماجدة التي أسست لعالم فتوحات السلام والأمن وأسست للتنمية والدبلوماسية الدولية حضورها، شواهد اثبات على نهضة الفكر والهوية في عمان، وبصمات عانقت سما المجد، سطرت خلدها في أمجاد التأريخ الإنساني، لتعلن للعالم أجمع أن العمانيين أمة لها حضارتها التي فاقت الأرجاء ودانت لها الأصقاع.
وبالتالي فإن هذا الرصيد التنافسي الحضاري لعمان أسس لها حضورا في كل محطات الإنجاز العالمي ووضع لها مبادئ هويتها وخصوصيتها التي سطرت أروع نماذج العطاء للأوطان، مما يؤكد أننا بحاجة لأن تكون لنا خصوصيتنا في طريقة قراءتنا للتأريخ العماني وآليتنا في رصده وسرده وتبليغه للأجيال وإيصاله لشعوب العالم المختلفة، وما يستدعيه ذلك من سياسات ومنهجيات وأطر تضمن لهذا التأريخ والتراث المادي وغير المادي قدرته على الدخول في عمق الحدث العالمي وينافس بقوة في تشكيله وإعادة انتاجه، وأن يكون فقه الأجيال نحوه ليس ترديدا له أو فهمه بطريقة سطيحة، فيتصور أن اهتمامه بالموروث الغنائي والفني هو مجرد مساحات استلطاف للنفس وتسلية لها، بل أن نمنحه فرص الدراسات البحثية والمنهجية العلمية والتأصيل الفكري السليم، فنقرأ الهوية الوطنية في مقتنيات الانسان العماني وما تحويه المتاحف من كنوز اثرية، في التنوع الجغرافي، سهول عمان وجبالها، في كهوفها ووديانها، واشجارها ونخلها وزرعها، في هندسه أفلاجها والبناء المعماري للقلاع والحصون والمساجد والمنازل، في البيوت التاريخية والاثرية، في المفردات الثقافية والاجتماعية لسكّكان الساحل والجبل والحواضر والبوادي، فهي جميعها ترسم نهضة الهوية وتؤسس مسار التميز للشخصية العمانية.
لقد حددت مواد النظام الأساسي للدولة مجالات التنافس بين المواطنين فالمادتان (9و40) وغيرهما ترسمان نطاق العمل في ظلال الهوية، عبر بناء سياسات وتشريعات تصنع شخصية المواطن وتؤهله للمنافسة في تحقيق هذا المسار التنموي، ويصبح تقييمنا لها بناءً على نماذج الأداءات المتحققة وحجم وتنوع المفاهيم التي يمتلكها المواطن وتضمن له الدخول في عمق الحدث الوطني، مشاركا فاعلا، ومواطنا صالحا، ومسؤولا مخلصا، وأبا مربيا، بما يؤكد في الوقت نفسه على أهمية الاكثار من النماذج العملية والبرامج التي تحتضن الهوية، لنقرأها في مبادرات المواطن الجادة، والتزامه بتحقيق المسؤولية الاجتماعية، والعمل التطوعي، ومساهماته المعنوية والمادية في تعزيز هذا الرصيد الوطني في كل مواقع العمل والمسؤولية، وأن تتيح المؤسسات فرص صناعة هذا المشروع الوطني الثري والاستثمار فيه فيصبح محل اهتمام المواطن ويؤسس فيه مشروعه الاقتصادي كتعبير عن هوية وطنية تصنع العطاء وتبني الأمل وتؤسس للمنافسة والابتكار.
وعليه تبقى مسؤوليتنا اليوم في أن نؤسس للهوية الوطنية أدواتها ونصنع لها حضورها في أبناء عمان وبناتها، ونؤطرها في الداخل عبر صدق الممارسة ورقيها فيقبل عليها المواطن برغبة وينسجها في سلوكه، ونسوق لها في الخارج لنمنع سرقة تأريخنا أو التعدي عليه.