[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
” مع الإقبال المتزايد على مواقع التواصل ولجوء وسائل الإعلام التقليدية إليها كوسيلة نشر وظهور مواقع وهمية ومزيفة للأخبار والمعلومات لم تعد الناس تثق كثيرا في وسائل الإعلام، وطغى التلفيق والفبركة والإشاعات على مصداقية وسائل الإعلام التقليدية. وأصبح الجمهور يفاجأ يوميا تقريبا بخبر مهم وكبير يتضح فيما بعد أنه مفبرك وأن انتشاره عبر تويتر وفيسبوك كاد أن يضفي عليه مصداقية فتورطت بعض وسائل الإعلام الرئيسية في نقله ـ”

فقدت كذبة أبريل هذا العام بريقها المعتاد، والواقع أن أهميتها آخذة في التراجع في السنوات الأخيرة لكنها هذا العام لم تثر اهتماما كما كان قبل سنوات. وبغض النظر عن أصل الموضوع وتفسيراته الكثيرة، إلا أن الناس اعتادوا أن يشهد يوم الأول من ابريل فكاهة تقليدية تتمثل في "خبر كاذب" أو "معلومة مفبركة" على طريقة برامج "الكاميرا الخفية" في التلفزيون ليكتشف الناس بعد ذلك أن الأمر ليس صحيحا وإنما كان "كذبة أبريل". وغالبا ما يكون الخبر من النوع المثير أو الطريف، ومن الغرابة أنه لا يصدق لولا أنك تقرأه في الجريدة أو تسمعه في الإذاعة أو التلفزيون. وغالبا ما تكون الصحف المنفذ الرئيسي لتلك الخدعة السنوية في هذا اليوم من العام. وتراجع ذلك بالطبع مع انتشار الانترنت وما تسمى وسائل التواصل وإقبال الناس عليها كمصدر للأخبار والمعلومات.
قبل سنوات، كان الناس يثقون بقدر معقول في وسائل الإعلام فيأتي يوم الأول من ابريل و"يبلعوا" تلك الفكاهة ليكتشفوا فيما بعد أن خبرا مثيرا لم يكن سوى كذبة أبريل ويظل الأمر مثار تندر واستمتاع إلى حد ما. لكن مع الاقبال المتزايد على مواقع التواصل ولجوء وسائل الإعلام التقليدية اليها كوسيلة نشر وظهور مواقع وهمية ومزيفة للأخبار والمعلومات لم تعد الناس تثق كثيرا في وسائل الإعلام، وطغى التلفيق والفبركة والإشاعات على مصداقية وسائل الاعلام التقليدية. واصبح الجمهور يفاجأ يوميا تقريبا بخبر مهم وكبير يتضح فيما بعد أنه مفبرك وأن انتشاره عبر تويتروفيسبوك كاد أن يضفي عليه مصداقية فتورطت بعض وسائل الإعلام الرئيسية في نقله ـ حتى وإن نسبته إلى "انتشر على وسائل التواصل ....". وساهم في ذلك أيضا تطور تكنولوجيا التزييف والتزوير المحكم في الصور والفيديو وحتى الصوت بشكل يجعل التلفيق والفبركة أمرا سهلا على الانترنت. وربما كان العامين الأخيرين القشة التي قصمت ظهر البعير مع بروز مشكلة "الأخبار الكاذبة" خلال انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016 ثم موقف الإعلام من الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وتغريدات الرئيس ضد الإعلام ووصفه له دائما بانه "أخبار كاذبة".
وهكذا، أصبح الجمهور يستهلك ربما أكثر من "كذبة ابريل" واحدة في اليوم فلم يعد سهلا اثارة اهتمامه أو تسليته أو إدهاشه بنكتة أول أبريل. لكني أتصور أن هناك سببا أعمق لفقدان كذبة أبريل بريقها يتجاوز موضوع الأخبار الكاذبة وفبركات واشاعات مواقع التواصل. وربما كان لذلك السبب علاقة بالتغير السريع في طريقة استهلاك الناس العادية للمعلومات والأخبار من خلال الوفرة الرهيبة التي اتاحتها الانترنت والهواتف الذكية المرتبطة بشبكة الاتصالات والمعلومات. وشهد العالم تغيرا ملحوظا في القيم والعادات والسلوكيات وتعرضت كثير من المفاهيم الراسخة لهزات وخلخلة قوية، فيما لم تتشكل بعد بدائل قوية تحل محلها فأصبحنا نعيش فترة ميوعة على كل الأصعدة. ومن أهم ملامح ذلك القبول السهل بما كان قبل فترة قصيرة يعتبر غير مقبول أخلاقيا أو اجتماعيا. قد يفسر البعض ذلك بأنه موجة رد فعل على انتشار مظاهر التشدد قبل نحو نصف قرن، خاصة في المجتمعات التي طورت جماعات فيها مظاهر دينية صارمة. وقد يفسره البعض على أنه أحد ملامح انهيار الإيديولوجيات الكبرى ومرحلة ما بعد "نظام عالمي قديم" وقبل تشكل "نظام عالمي جديد". وللأسف الشديد، لم تشهد العقود الأخيرة من حياة البشرية على كوكب الأرض وجود مفكرين كبار وفلاسفة عظام يستنبطون لنا نتائج منطقية من المقدمات الوفيرة والمظاهر الطاغية.
نعم، لدينا عقولنا ومعارفنا المتباينة نسبيا وقدرتنا جميعا على التفكير واستخلاص العبر والدروس لكن أي جماعة تحتاج إلى من يتفرغ من بينها لهذا الأمر باعتباره "فرض كفاية" لا يلغي فرض عين التفكير على الجميع. هكذا كانت كل مراحل تطور البشرية وانتقالها من حضارة إلى أخرى. ولست أدري إذا كان التطور التكنولوجي وما يعد به من "ذكاء صناعي" يمكن أن يحل تلك المشكلة (المفكرون والفلسفة) أم أن تطوير برامج الذكاء الصناعي تلك يحتاج إلى مفكرين عظام لإدخال البيانات وتصميم النماذج. حقا، هو أمر محير لأمثالي على طريقة "من أولا: الدجاجة أم البيضة؟"، لكن عقلي البسيط يقول أن من يبرمج الروبوتات الذكية هم بشر يستعينون بما تراكم من معارف من نتاج بشر آخرين. هل خطر على بالكم إذا أن البشرية ستبدأ في "إعادة تدوير" ما لديها في هذا المجال دون تطوير وإبداع؟ يعدنا أهل التكنولوجيا بأن الذكاء الصناعي سيكون قادرا على تطوير نفسه والقيام بمهمة التفكير والاستنتاج ربما بشكل أدق من البشر. تبقى مشكلة بسيطة وهي أن العقل البشري ـ رغم كل ما قد يكون به من علل أحيانا ـ لا يعمل كالماكينة (أو كما يقال: لا يسير كما الكتاب). وهنا يأتي ابداعه الذي لا أظن أن برامج الكمبيوتر يمكن أن تحققه.
مر أول أبريل دون انبهار بخبر كبير على طريقة "كذبة أبريل"، رغم أن بعض الصحف حاولت لكن محاولاتها ضاعت بين طوفان الكذب الدائم والمبتكر على الانترنت. ولست أدري إن كان بين برمجيات الذكاء الصناعي ما سيظل يحمل بعض مما تعودنا عليه مثل كذبة أبريل.