لا يوجد مؤمن صحيح الإيمان إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه وتعالى ، وأنه تعالى يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، وأن خزائن كل شئ بيده ، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه ، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه . لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله ؛ لأن من شك في شئ من ذلك فليس بمؤمن ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) لا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى ( وإذا مسكم الضر في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه ) .. ( قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً ) ..
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله . ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا الله . ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبراته وصوته المكتوم في جوفه إلا الله . ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله ( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر واخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) . .. يغضب إذا لم يسأل ، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع ، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه ، ويكشف كرب المكروب إذا سأله ( أمَّن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكّرُون ) روى أبوهريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فاعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ " متفق عليه .
وهذا فضل عظيم ، وثواب جزيل من رب رحيم ، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه ؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه ؟ وأن يطلب العباد حاجاتهم من غيره ؟ أيسألون عبيداً مثلهم ، ويتركون خالقهم ؟! أيلجؤون إلى ضعفاء عاجزين ، ويتحولون عن القوي القاهر القادر؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل " .
إن الدعاء من أجلِّ العبادات ؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال ،وذلِّ الحاجة ، والافتقار لله تعالى ، والتضرع له ، والانكسار بين يديه ، ما يظهر حقيقة العبودية لله ؛ ولذلك كان أكرم شئ على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : " ليس شئٌ أكرم على الله من الدعاء " .
وإذا دعا العبد ربه فهو أقرب إليه من نفسه ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ... قال ابن كثير رحمه الله : " في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الإجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد ) ... دعوة عند الفطر ما ترد ، ودعاء في ثلث الليل الآخر مستجاب ، وليلة خيرٌ من ألف شهر ، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر . ما أعظمه من فضل ! واجزله من عطاء في ليالٍ معدودات . فمن يملك نفسه وشهوته ، ويستزيد من الخيرات ، وينافس في الطاعات ، ويكثرُ في التضرع والدعاء ؟!
ومهما أكثر العبد ُ من الدعاء فخزائن الله أكثر ، وعطاؤه أكثر ، وهوتعالى أكرم ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :" ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم او قطيعة رحم ، فقال من القوم : فإذن نكثر ، قال الله أكثر " . فالله تعالى أكثر إجابة واكثر عطاءً .
والله سبحانه يعطي عبده على قدر ظنه به ، فإن ظنَّ ان ربه غني كريم جواد ، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه ، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاه الله تعالى كلَّ ما سأل وزيادة ، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني " وإذا أكثر العبدُ في الرخاء فإنه مع ما يحصل له من الخير العاجل والآجل يكون احرى وأجدر بالإجابة إذا دعا في حال شدته من عبد ٍ لا يعرف الدعاء إلا في الشدائد . روى أبوهريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء ". .. ومع أن الله خلق عبده ورزقه ، وانعمَ عليه وهو غنى عنه ؛ فإنه تعالى يستحيي أن يرده خائباً إذا دعاه ن وهذا غاية الكرم ، والله أكرم الكرمين . .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله حييٌ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خاليتين ".
تلك كانت جملة من فضائل الدعاء وأثره ، وهذه أيام الدعاء ، وإن كان الدعاء في كل وقت ، ولكن من لم يكثر الدعاء في هذه الأيام والليالي التي لها مزية فضل على غيرها ، وخصت بليلة هي خير من ألف شهر ، فمتى يا ترى يدعو الله تعالى ؟! فأكثروا الدعاء في هذه الأيام المباركة ، وأخلصوا لله تعالى في دعائكم واعمالكم ( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) .. ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين )
قال ابن جرير رحمه الله : " تضرعاً : تذللاً واستكانة لطاعته ، وخفية : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهاراً ولا مراءاة ، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته ، كما يفعل أهل النفاق والخداع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم . .. قال الحسن : " إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقُه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة في بيته وعنده زواره وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانيةً أبداً . لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله سبحانه يقول ( ادعوا ربكم تضرعا وخُفية ) وذكر الله عبده زكريا لمّا ناداه نداءً رضيه منه ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) وذلك عندما يكون العبدُ خالياً في صلاته يدعو ربه .
هذه الليالى العشر سوق رائجة للمؤمنين ، وربحها مضمون لمن وفقه الله وقبله منه ، فمن أشد حرماناً ممن أضاع على نفسه الفرصة . ليالٍ تُقَسَّمُ فيها الغنائم ، وتوزع الرزاق ، وتفتح الأبواب ، وتتنزل الرحمات ، فهل يليق بمسلم أن تمضي عليه وهو في نوم وغفلة ؟ فكيف إذا كان يقضيها في محرم وعلى معصية ؟! فنعوذ بالله من الخذلان ، ونعوذ به من الحرمان . فاجتهدوا فيها ، وأروا الله من أنفسكم خيراً ، وأكثروا الدعاء والتضرع والإلحاح على الله تعالى وأنتم موقنون بالإجابة ؛ ففي ذلك خيرٌ كثيرٌ .
نسأل الله أن لا يجعلني وإياكم من المحرومين ؛ فإن المحروم من حُرم فضل الله تعالى ورحمته ، وفرط في أمره وطاعته ، كما نسأله سبحانه أن يوفقنا لمراضيه ، وأن يجنبنا مناهيه ، وأن يجعل مستقبل حالنا خيراً من ماضيه ، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

أحمد محمد خشبة إمام وخطيب جامع ذو النورين
[email protected]