{ أم تأمـرهـم أحـلامهـم بهـذا أم هـم قـوم طـاغـون }
الزيدي
( مـن ينابيـع القـرآن )

{ أم تأمـرهـم أحـلامهـم بهـذا أم هـم قـوم طـاغـون }

فإن الحـق ما شـهــدت به الأعـداء ، وهـو أقـوى حجـة عـلى الخـصـم ، وهـذا الـولـيـد بن المغـيرة بن عـبـد الله المخـزومي ، الـذي كان زعـيما مـن زعـماء قـريـش وقـضاة العـرب في الجاهـليـة، وكان ممـن حـرم الخـمـر عـلى نفـسه وغـيره، ولـذا ضـرب ابنه عـلى شـربها وأدرك الإسـلام وهـو شـيخ هـرم، فـعـاداه عـداء صـراحـا، وقـاومـه بأسـلـوبه، إذ وصـفـه وصـفـا يـدل عـلى بـراعـته ، فـبقـي شـاهـدا إلى يـوم القـيامـة.
قال الله تعالى في الـولـيـد بن المغـيرة: { ذرني ومـن خـلـقـت وحـيـدا ، وجـعـلت له مالا ممـدودا، ومهــدت له تمهـيـدا، ثـم يـطـمـع أن أزيـد ، كـلا إنه كان لآيـاتنا عـنـيـدا سـأرهـقـه صـعــودا، إنه فـكـر وقــدر، فـقـتـل كـيـف قـدر، ثـم قـتـل كـيـف قــدر، ثـم نـظـر، ثـم عـبـس واسـتكـبر، فـقال : إن هـذا إلا سـحـر يـثـر، إن هـذا إلا قـول الـبـشـر سـأصـليه صـقـر وما أدراك ما صـقـر لا تـقي ولا تـذر لـواحـة للـبـشـر} (سـورة المـدثـر 11/29).
تـوفي بـعــد الهجـرة بـثـلاثة أشـهـر ودفـن بالحجـون وهـو والـد خـالـد بن الـولـيـد سـيف الله المسـلـول.
فـقـال الـولـيـد بن المـغـيرة لـقـريـش لما راحـوا يصـفـون الـقـرآن الكـريـم بالأوصاف المـخـتـلفة المخـتلـقـة، فـقال: ما هـو بسـحـر ولا كهـانـة وما هـو بشـعـر ، أنا أعـرفـكـم وأعـلـمـكـم بالشـعــر رجــزه وقـصـيـده ، ولـقـد سـمـعـت كـلاما ما هـو بـكلام الإنـس و مـن كـلام الجـن ، إن لـه لحـلاوة وإن عـليه لطـلاوة، وإن أعـلاه لمـثـمـر وإن أسـفـله لمـغــدق ، وإنه يـعـلـو ولا يـعـلى عـليه ـ (ابن هـشام السـيرة باب تحـير الـولـيـد بن المغـيرة فـيما يصـف به القـرآن جـ 1 ص 144).
تلك هـي كـلمة الـولـيـد بن المغــيرة المخـزومي في القـرآن الكـريـم ،وهـو أحـد الـرجـلين اللـذين قالت فـيهـما قـريـش : { لـو لا أنـزل هـذا القـرآن عـلى رجـل مـن القـريتـين عـظـيـم } (سـورة الخـرف 31).
فهـم مـن جهـة قـد أعـجـبـوا بالقـرآن ، وبأ سـلـوب القـرآن ، وبإعـجـاز القـرآن ، وتأثـروا بـه كـثـيرا، حـتى تـمنـوا أن لـولـم يـنـزل عـلى محمـد بن عـبـد الله بن عـبـد المـطـلـب، وأحـبـوا أن لـو أنـزل عـلى رجـل مـن الـقـريـتـين عـظـيـم ، إما الـوليـد ابن المغـيرة المخـزومي وإما عـروة بن مسـعـود الـثـقـفي ، ولـم يـتـمـنـوا هـذا إلا لـشـعـورهـم وإدراكـهـم لـعـظـمـة الـقـرآن الكـريـم ، ولـكـنهـم مـن جـهـة أخـرى يـقـولـون في الـذي أنـزل عـليه القـرآن إنه لمجـنـون، فأي اضـطـراب هـذا ؟، وإنه لـيـس هـناك جـنـون أكـثر مـن جـنـونهـم ، ولـكنهـم تجـاهـلـوا كل تـلك الـروعـة في القـرآن الكـريـم.
قال الله تعالى : { أم تأمـرهـم أحـلامهـم بهـذا أم هـم قـوم طـاغـون } إنهـا كلـمة صـغـيرة ولـكـنهـا خـنجـر أصـاب قـلـوبهـم فأدماهـا ، وجـعـلهـم لا قـيمـة لهـم ، لما كـابـروا الحـق الـذي لا مـريـة فـيه.
أما عــروة بن مـسـود الثـقـفي ، فهـو عـظـيـم ثـقـيف ، ولما انصـرف النـبي (صلى الله عـليه وسـلم) مـن ثـقـيـف رجـع عـروة إلى قـومـه فأظـهـر الإسـلام ودعـاهـم إليه ، فـرمـوه بالنـبـل فأصابه سـهـر فـقـتـلـه ، فـقـيـل له ما تـرى في دمـك ؟ ، قـال كـرامـة أكـرمني الله بها ، وشـهـادة سـاقـها الله إلى ، ادفـنـوني في الشـهـداء الـذين قـتـلـوا مـع رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) ، قـيـل : إن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) قال فـيه : ( إن مـثـله في قـومه كـمـثـل صاحـب ياسين في قـومه ) ـ المصدر : النـووي : تهـذيب الأسـماء ترجـمة رقـم : ( 406 جـ 1 ص 305).
وذكـر بعـض المـفـسرين لمناسـبة الآيـة حـديثا عـن النبي (صلى الله عـليه وسـلم) ، وذلك أن رجـلا قال بـين يـدي النبي (صلى الله عـليه وسـلم) : ما أعـقـل فـلانا النصـراني ، فـقال له النبي (صلى الله عـليه وسـلم): ( مه لا تـقـل هـذا، إن الكـافـر ليـس بـعـاقـل ، أو ما سـمـعـت الله تعالى يـقـول : { وقـالـوا لـو كـنا نـسـمع أو نعـقـل ما كـنا في أصحـاب السـعـير } سـورة الـمـلك ، وفي رواية ابن عـمـر للحـديـث لما سـمـع النبي صـلى الله عـليه وسـلم هـذا الـذي يـقـول : ما أعـقـل فـلانا النصـراني ، قال له : (مـه إن الـاقـل مـن يعـمـل بطـاعـة الله) .
واسـتـدل بـقـول الله تعالى:{ وقالـوا لـو كـنا نسـمـع أن نـعـقـل ما كـنا في أصحـاب السـعـير } ـ (القـرطـبي تفـسير جـ 17 ، ص 73 ).
إن الشـيطان قـد يـثـير في نفـوسـنا بعـض الشـبه ، فـنـقـول : سـبحان الله ، كـيـف يـضـل الكـفـرة عـن سـواء الـسـبيـل ويـرتكـبـون المعاصي التي تـؤدي بهـم إلى نار جهـنم ، وهـم قـد بـلغـوا الـدرجـة القـصوى مـن العـقـل ، تـرى كـيـف يـعـقـل هـذا ؟.
هـذا سـر مـن أسـرار الله الخـفـية ، إن القـوة الـروحـية أو الـقـوة التي نـطــلـق عـيها اسـم العـقـل والحـذاقـة والـكـياسـة ، أو غـير ذلك مـن الأسـماء وهي أسـماء نـطـلـقها عـلى شيء خـفي لا نعــرف حـقـيقـته ، ولـكـننا نـدركـه بآثـاره في الخـارج فـقـط ، فإذا رأيـنا إنسانا يـزن الأشـياء بـدقـة مـتـناهـية ، حـتى إنه لا يـكاد يخـطيء نـقـول فـيه إنه حـاذق ، أو إنـه ذو عـقـل كـبير أو ذو ذكاء خـارق ، وإذا رأيـنا إنسانا يتـصـرف تـصـرفات تعـود عـليه بالضـرر وهـو يظـن أنه يحـسن صـنعـا ، نقـول فـيه إنه أحـمـق ، أو أبـله أو بـلـيـد العـقـل ، ولـكـن مـن مـن الناس يسـتطـيع أن يـبين حـقـيـقة العـقـل ، أو حـقـيقة الـذكاء ، أو حـقـيـقـة الحـذاقـة ؟.
إنه لا يـستـطـيع هـذا أحـد ومـن مـن الناس يسـتطـيع أن يبين مـقـدار قـوة العـقـل ، وقـوة الـذكاء ، أو قـوة بـعـد النـظـر؟ ، إنه لا يـقـدر عـلى ذلك أحـد ، لأنها كلها قـوى خـفـية داخـل النفـس لا يـعـلـم حـقـيـقـتها إلا الله تعالى ، ولا يـعـلم فـرق ما بينـها إلا خـالقـها ، وهـنا مكـمـن الـنـكـتة التي أشـير إليها.
إذن : إن النصـراني الـذي وصـفـه الـرجـل بالعـقـل ليـس عـاقـلا ، وهـذا ما دل عـليه قـوله تعالى:{وقالـوا: لـو كـنا نسـمع أو نعـقـل ما كـنا في أصـحـاب السـعـير } (سـورة الملك 10)، وقـول الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) لـه: ( مه لا تـقـل فـيه هـذا إن الـكافـر ليس بعـاقـل) ، فالـذي لا يـوصـله عـقـله إلى الإيـمـان الـذي يـزحـزحه عـن النار يـوم القـيامة ويـدخـله الجـنة لـيس بـعـاقـل بحـسب التعـبـير الـقـرآني ، وهـل يـوجـد أفـضـل وأصـدق مـن الـقـرآن الكـريـم، ولــهـذا يكـثر الله تعالى في كـتابه الكـريـم مـن التعـبير بـقـوله:{ إن في ذلك لآيات لـقـوم يعـقـلـون} سـورة الـرعـد وبـقـوله:{ وما يـعـقـلها إلا العـالمـون } (سـورة الـعـنـكـبـوت 43).
إذن : العـقـل قـوة يـعـطـيـها الله تعالى لمـن يـشاء مـن عـبـاده ، تـوصـله إلى إدراك منفـعـته الحـقـيقـية والسـعي إلى سـعـادته في الــداريـن الـدنيا والآخـرة وإدراك ضـرره الحـقـيـقي ، وهـو شــقاؤه في الـدار الآخـرة.
أما الـدنيا فهـي تـمـر بحـلـوها ومـرها ، يجـتازها الإنسان بالغـنى والـسعـة أو الفـقـر والضـيـق، وبالسيادة والـرئاسـة أو العـبـودية والـذلة، وبالصحـة والمـرض والمـثـل العـربي الـدارج يـقـول: (الشـقي والمـرتاح باتـوا في مـراح ) ، يعـني الفـقـير والغـني إذا ما ماتا يــدفـنان في أرض واحـدة ، فالناس كلهـم يـدخـلـون القـبـور، وكلهـم يـدفـنـون في الأرض، ولـو أن قـبـور الأمـراء والأغـنيـاء تجـصص وتـزيـن بالرخـام وتـزخـرف بالكـتابات ، وتنـفـق عـليه أمـوال طـائـلة ، ولـكـن في النهـايـة لا تـدفـن فـيها إلا جـيفـة إنسـان.
قـيـل إن شـخـصا اتخـذ المقـبرة سـكنا له، ولـما سـئـل عـن الـسبـب قال : أريـد أن أبحـث في رفـات المـوتى أيـوجـد فـرق بـين رفـات الأغـنـياء وبـين رفـات الفـقـراء أم لا.
قال تعالى:{ أم هـم طـاغـون }، لـقـد تجـاوزوا كل حـد في حـسـد الرسـول صلى الله عـليه وسـلم وبغـضه ، حـتى اضطـربـوا في وصـفــه ، وتـفـرقـوا طـرائـق قـددا ، فـلـم يـدروا مـا يـقـولـون ، وكأن لـم يـكـن له شـأن بينهـم، وقـد كانـوا يـلـقـبـونه بالأمـين قـبـل أن يـكـرمـه ويـنـزل عـليه الـوحي ويـبعــث ، ولـكـن الشيء الـذي طـرأ أنـه كـبـر عـليهـم أن يـرتـفـع مـقـام هـذا الـذي نـشأ يـتـيمـا، عـلى أنهـم لـو عـقـلـوا ولـم يـكابـروا، فالحـق أحـق أن يـتبـع، فـمحمد بن عـبـد الله بن عـبـد المطـلـب سـيـد البطحـاء في ذؤابـة بني هـاشـم ، وبنـو اشـم هـم ذؤابـة قـريـشا نسـبا وقـدرا.
قال الله تعالى:{أم يـقـولـون تـقـوله بـل لا يـؤمـنـون } (سـورة الطـور33)، وقـولهـم هـذا هـو غـير قـولهـم في القـرآن الكـريـم ، إنه سـحـر وكهانة وشـعـر ، فـقـولهـم : { تقـولـه } يعـني هـذا كـلام تـكـف قـوله ونسجه مـن عـنـده ، وقال : ( إن الله أنـزله عـلي بـواسـطـة الـروح الأمـين جـبريـل عـليه السـلام.
.. وللحـديث بقـية.