[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
”.. إذا كان كثيرون ممن عرفوا طارق حسن صحفيا ورئيس تحرير وكاتبا عبروا عن مشاعر فقدهم له بصورة "ذكر محاسن موتاهم" فإن آخرين ممن عرفوا طارق في سنواته الأولى لم ينسوا له مواقف وتقلبات سياسية وإنسانية. لكن بالطبع، دعا الجميع له بالرحمة والمغفرة وإن أشاروا إلى أن ما يعمله الإنسان في الدنيا لا يضيع الموت آثاره. وهذا درس آخر في وداع طارق، فخياراتنا الحياتية لا يمحو الموت آثارها.”

رحل عن عالمنا الصحفي والكاتب المصري طارق حسن، رئيس تحرير الأهرام المسائي السابق ومدير تحرير روز اليوسف سابقا أيضا، بعد صراع مع المرض لفترة قصيرة. ربما لم يعرف كثيرون خارج مصر ـ باستثناء السودان وفلسطين ـ طارق حسن، رغم عمله الصحفي الطويل ومقالاته في عدة منافذ داخل وخارج مصر. بدأ طارق الصحافة في جريدة "الشعب" الأسبوعية قبل استيلاء تنظيم الإخوان عليها وعلى حزب العمل، وانتقل إلى مجلة روز اليوسف ثم الأهرام ثم عاد إلى صحيفة روز اليوسف مديرا للتحرير مع الصحفي والكاتب الراحل محمد حمدي وقت رئاسة الراحل أيضا عبدالله كمال لتحريرها. ولم يكن طارق صحفيا ماهرا فحسب، بل باحثا كاتبا أيضا وتركز اهتمامه على قضيتين في غاية الأهمية، مع اهتمامه بكافة القضايا المعاصرة، هما السودان وغزة. وزار السودان كثيرا وعمل فترة مراسلا للأهرام في غزة.
عرفت طارق ومحمد من أيام الجامعة، وعملنا معا وعشنا معا من المدينة الجامعية لجامعة القاهرة لعدة مساكن مؤقتة في أحياء القاهرة المختلفة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وعملنا معا في نفس الصحيفة، وتشاركنا العمل مع الصحفي والباحث أشرف راضي في يوميات الانتفاضة الأولى نهاية الثمانينيات، التي صدرت في عدة كتب من دار الفتى العربي وقتها. تفرقت بنا سبل العيش، لكنا لم نفترق كأصدقاء، حتى رغم بعض خلافات الرؤى والأفكار – وكان ذلك واسعا مع ارتباط طارق بنظام الحكم في نهاية فترة مبارك وعمله مع لجنة السياسات التي شكلها جمال مبارك. لكن، وكما حسب للراحل عبدالله كمال أنه من القلة النادرة التي لم تتلون بانتهازية مع سقوط نظام مبارك، كذلك كان طارق. وظل كليهما يتحملان نتيجة نبل ثباتهما على الموقف وعدم التساهل في موقفهم الثابت من خطر الإخوان والإرهاب، وتحملا الكثير في السنوات القليلة التي عاشاها منذ 2011 في مصر وخارجها.
غالبت الدمع حين سمعت الخبر صباح الأحد، رغم أني كنت أتوقعه منذ أيام لمعرفتي بحالته المرضية عندما زرته سريعا في بيته بعد أيام من تشخيص حالته. كان نوعا نادرا من السرطان الذي يصيب الغشاء البلوري المحيط بالرئة وينتشر بسرعة. كذلك كان صديقنا الثالث محمد حمدي مصابا بالسرطان قبل نحو خمس سنوات، وظل يقاومه حتى استسلم وارتاح قبل نحو أربع سنوات. ربما كان سبب الحزن مضاعفا بفقد اثنين من أصدقاء العمر، وربما أيضا لشعور المرء بأن قطار الحياة يسير نحو محطاته الأخيرة ـ ولكل محطته. في مرض وفاته العام قبل الماضي، قال لي نائب رئيس تحرير الشرق الأوسط السابق علي ابراهيم "دفعتنا مطلوبة" .. وكان رحمه الله يدرك اقتراب الأجل. لكن فقد كل هؤلاء في سنوات قليلة إنما يشير إلى أن جيلا وسيطا من الصحفيين والكتاب في طريقه إلى الزوال، على أمل أنه يخلي الطريق لجيل جديد يملك أدوات جديدة للحفاظ على هذه المهنة وتطويرها، ليس في مصر فحسب بل في العالم الناطق بالعربية كله.
وإذا كان كثيرون ممن عرفوا طارق حسن صحفيا ورئيس تحرير وكاتبا عبروا عن مشاعر فقدهم له بصورة "ذكر محاسن موتاهم" فإن آخرين ممن عرفوا طارق في سنواته الأولى لم ينسوا له مواقف وتقلبات سياسية وإنسانية. لكن بالطبع، دعا الجميع له بالرحمة والمغفرة وإن أشاروا إلى أن ما يعمله الإنسان في الدنيا لا يضيع الموت آثاره. وهذا درس آخر في وداع طارق، فخياراتنا الحياتية لا يمحو الموت آثارها، حتى مع قناعة الجميع: "اذكروا محاسن موتاكم". إنما هؤلاء وأولئك ربما لا يعرفون أن طارق حسن كان نموذجا لمرحلة في مسيرة مصر، فقد هجرت أسرته من السويس بعد العدوان الإسرائيلي في يونيو 1967 وتشتت به السبل صغيرا. لكنه حفر في صخر صعوبات الحياة، ولربما اختار في فترات ما أن يسلك سبلا لا يقرها كثيرون. وربما أضر ذلك بكثيرين، لكن إذا كان الله سبحانه وتعالى غفور رحيم فإن الإنسان ليس دوما هكذا.
بقي لطارق ومن سبقوه إلى الدار الآخرة كم كبير أيضا من الذين دخلوا مهنة الصحافة على يديهم، وسيبقى هؤلاء ذكرى حسنة لطارق وزملاء المهنة الراحلين. ورغم ملاحظات البعض، فقد ترك طارق كثيرا وإن كان من باب الاختلاف عليه والجدل حول مواقف وسلوكيات. فبعضنا حين تقسو عليه الدنيا يكون رد فعله سلبيا تجاه بقية البشر وكأنهم جميعا مسؤولون، وهناك منا من يواجه قسوة الحياة بالتساهل والتسامح وحتى الخنوع. وبين هؤلاء وأولئك من يواجه الحياة وكأنها تسير "كما الكتاب"، ولا أحكام هنا على أي فريق ـ إنما هذا طبع الأشياء. هكذا خلقنا وهكذا نحيا وهكذا نعود لنلقى وجه رب كريم.
رحم الله طارق حسن وغفر له، ورحمة الله على من سبقوه ومن سيلحقون به ونفع الناس ـ خاصة زملاء المهنة الشباب ـ بما ترك من عمل حسن في الدنيا وجزاه الله عنه خيرا.