[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
لم تكن طفولتنا سوى اكتشافات مبكرة لوطنيات أثرت على حياتنا حتى الآن، وجعلتنا أسرى لها مهما تقلب الزمان والبعض وحتى الأصدقاء والمقربين. فإذا اعتبرنا أن المرء ابن الطفولة وصدى لعالمها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، فيجب أن نضيف السياسي عليها رغم أنه لم يكن مفهوما في وقتها بما يسمح لنا تعريفه بشكله التام.
كلمة فلسطين مثلا كانت في تلك الطفولة محاطة بالضباب .. ما هي تلك التسمية وعلى ماذا تنطبق ومن هم الفلسطينيون؟ .. سمعت تلميذات في إحدى الرحلات المدرسية ولم يكن قد تجاوزت السابعة من عمري وهن ينشدن عن رجل ذهب لمقاتلة عدو ولم يعد ويطلبن من ابنه القيام مقامه في الطريق ذاته، وحين سألت أبي عن القصة قال إنهن فلسطينيات .. وماذا تعني تلك التسمية؟ سألته أيضا، فأجاب إنها دولة عربية احتلها اليهود.
ثاني المفاجآت كان زيارتي مع خالي لإحدى قطع الأسطول الأميركي التي رست في مرفأ بيروت خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وأعتقد أنني كنت أيضا في السابعة .. لكن الزورق الذي نقلنا إليها كان سائقه مصريا فسمعته يتحدث مع مصري آخر عن شخصية عسكرية لفظ اسمها جمال عبدالناصر، وحين سألت أبي أيضا وكان مهتما بالتاريخ وبالسياسة، قال إنه من صنع انقلابا في مصر .. لكن اسمه كان أكثر رنينا في مسمعي حين سمعته من إذاعة القاهرة لاحقا إبان العدوان الثلاثي على مصر (1956) وهو يصرخ باندفاع وقوة "سنقاتل" ورددها مرات "دفاعا عن شرف مصر" .. وحين أنهى خطابه بتصفيق حاد، جاء نشيد "الله أكبر" للمجموعة المصرية بمثابة أول إحساس عاطفي قومي صعب التفسير آنذاك نظرا لصغر السن ..
أما ثالث المفاجآت فكان حين اندلعت أحداث في لبنان عام 1958، وظهر في ذلك الوقت إذاعة عروبية تنطق بلسان المقاومة الشعبية في لبنان لكن بطلها المتكرر في كل نشراتها كان جمال عبدالناصر وكانت هنالك أغانٍ تردد اسمه وبطولاته، أما الإذاعة فكان اسمها "صوت العروبة، صوت القومية العربية من لبنان" .. كانت تهاجم رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك كميل شمعون لارتباطه بأميركا والغرب عموما .. هكذا فهمت مما يدور حولي، وكنت قد بلغت التاسعة من عمري تقريبا .. أما التأثير الكبير علي، فكان ردة فعل كبيرة حين أنزل الأميركان جيشا لهم على سواحل بيروت في العام نفسه بطلب من الرئيس اللبناني المذكور، فكان سمعت كلمة "احتلال" لأول مرة، أعقبها دعوات لمقاومة "المحتلين"، وكانت الإذاعة هي من يبث الدعوات باسم "العروبة" التي كم سألت عن مفهومها، ثم انطبعت في ذاكرتي منذ ذلك الوقت ولم تبرح أبدا.
وكثيرة هي المناسبات "العروبية" وما أكثرها في لبنان في ذلك الوقت المبكر، بل أيضا المناسبات الفلسطينية .. فكيف يمكن بالتالي سلخ تلك الأحاسيس التي اخترقت الجلد والعظم والقلب والدماغ واستقرت كي لا يمكن تغييرها أو تجاوزها بأية مصطلحات مهما كانت، والمغريات في أيامنا تلك كثيرة.
فكيف إذن تفاجئنا وزارة الخارجية اللبنانية اليوم بنشر خريطة لأماكن الانتخابات النيابية اللبنانية في الوطن العربي المزمع إجراؤها في مايو المقبل، وتم حذف اسم فلسطين عن خريطتها ووضعت مكانها اسم إسرائيل. كيف يمكن لعقلي وقلبي وجلدي وعظمي أن يتقبل مثل هذا الإعلان، وأن تمر التسمية بدون إنذار داخلي ظهر من خلاله على وجه السرعة تاريخ طويل مما تأسست عليه مع جيل كامل، فصار جبلتنا التي من المستحيل أن تنشد إلى أي بديل أو آخر.