محمد جداد:
كثيرا ما تسقط سعادة بعضنا في فخ العادات، وتتلاشى في فضاء التقاليد، وتُنصب كمائن تعاستنا تحت بعض المسميات، تُنصب لنا في طرق ملتوية من دروب حياتنا، لا نراها، ولا نحس بوجودها إلا عندما تتعثر أرجل آمالنا وأحلامنا. نأتي إلى العالم وبعض جراحنا مغلفة وموضوعة في ظروف مغلقة بإحكام، لا تُفتح إلا عندما يحل الحزن ضيفا على قلوبنا.
بهذه الكلمات بدأت ثمنه تحكي قصة طفول، ترويها وتناهيدها تتعارك في صدرها، تسحب الكلمات من حنجرتها، وكأنها تغص بها. تتوقف أحياناً للحظات لكي تفسح للهواء فرصة ليأخذ دورته في رئتيها. كانت تحكي قصة طفول لبناتها: شريفة، وجميلة، اللواتي وصلن إلى سن الزواج.
طفول تلك الشابة الحالمة، الطامحة، المتوهجة، مقبلة على العالم وهي تحمل شمعة الفرح على أكف الأمل، أنهت الثانوية العامة، وتم قبولها في كلية التقنية. وفي أول فصل لها في الكلية تقدم لها أحد أبناء عمومتها، اسمه سعيد، وهو مهندس خريج بريطانيا، ويعمل في إحدى أكبر الشركات، أتتها التهاني على الخطبة قبل أن تُبدي موافقتها، أو حتى قبل أن يؤخذ رأيها. المواصفات التي في المهندس سعيد تتمنى كل شابة أن تكون في خطيبها، لذلك لا مجال هنا للتردد، أو حتى لمجرد التفكير. كان قد توفي والد طفول بسبب سرطان الكبد قبل زواجها بثلاث سنوات، ووالدتها طريحة الفراش بشلل نصفي، يُعتبر عمها سهيل وليّ أمرها رغم وجود أخيها المحامي وليد، أقاما وليمة عشاء للمهندس وأهله ليُبلغوهم بالرد والترحيب.
بعد ستة أشهر دخلت تلك الحالمة، صاحبة الصوت الخجول، والعيون البنية الناعسة، والابتسامة الجميلة الهادئة، إلى ذلك العالم الذي تحلم به كل أنثى، عالم رسمته في ذهنها في شكل لوحة ربيعية. لم تكن طفول تعرف سعيد جيداً، وإنما عرفته من كلام أهلها، ومديح المقربين منه، عرفته عن طريق كلمات تتناقلها الألسن. السمع هو الحاسة الوحيدة التي كانت كافية لكي تبني طفول عليها أجمل ما في عمرها! مر على زواجهما شهر، كان شهرا هادئا، كانت تتوقع فيه تغيرا جذريا لحياتها، ولكنه لم يكن كذلك، فشخصية سعيد التي بدأت تتكشف لها جعلتها تفهم معنى الحلم! طلعاتهما سوياً قليلة جداً، وجلوسهما معاً أقل من المتوقع، لدرجة أن ليلى أخت سعيد لاحظت ذلك. ففي إحدى المرات سألت ليلى طفول قائلة: "ماسبب عدم خروجكما سوياً؟". فتعذرت بأن سعيد مشغول، ومرة أخرى جلست ليلى بجانب سعيد على صوفة الصالة، وسألته: "أنت عريس، وليس لديك وقت لتخرج مع عروسك إلى مطعم، أو تأخذها في رحلة لثلاثة أو أربعة أيام إلى مسقط؟!". فقال لها وطفول جالسة في الجانب المقابل لهما: "الزواج للرجل نصف الدين، وللمرأة ستر، وجلوس في بيت زوجها!". بعد فترة اتصل سعيد بها، وأبلغها بأن ترتب له حقيبة السفر، لأنه وأخاها المحامي سيسافران لبيروت لأسبوع. بعد عودتهما زادت تصرفاته غرابة، محادثاته الهاتفية كثرت، وهاتفه مشغول إلى آخر الليل، وعندما يعود من الخارج يرتمي على صوفة الصالة يراقب التلفاز إلى أن يغرق في النوم، ثم توقظه طفول، فيسحب جسده ساقطاً على سريرة، وتبقى هي ساهرةً تتأمل قصر أحلامها الذي بدأت أطرافه تتهاوى كل ليلة، تمر عليها أسابيع ولا يسألها إن كانت بحاجة لأي شيء، تقول لنفسها: "بعض الحقوق تُعطى، لا تُطلب، ولكن لا يسألك إلا من يحس بحاجتك".
قاطعت شريفة أمها ثمنة، قائلة: "إلى متى وهي صابرة وساكته؟!". وأردفت جميلة: "بالفعل إلى متى تصبر وهي ساكتة؟". أمّا طفول فروت كل شيء. قالت لهن: "لم أعد أتحمل، فكلما كلمته، ارتفع صوتي، وارتفع صوته. وتصادم صراخي مع برودته. قلت له:
- تصرفاتك غير مبررة، يا سعيد؟ لا أفهمك.
لكنه لم يرد، تجاهلني، فصرخت به:
- أخذتني من دار أهلي معززةٌ مكرمة لكي تُهينني؟ هل هذا ما تعلمته في أرقى الجامعات؟ هل تصرفاتك هذه من شيم الرجال!؟.
أجابها بكل برود:
- لم أهنكِ!.
صاحت بوجهه:
- لم تهني؟! وأنت تقتلني في كل ليلة ألف مرة. كل يوم تطلق رصاصة على طائر من طيور أحلامي.
قال لها:
- أنتِ من بنيت تلك الأحلام الواهية، لست أنا! ولكن الشيء الوحيد الذي تعرفينه أن وضعي المادي متدهور وصعب، والسبب هو أنتِ!.
اقتربت منه والدموع تكوي خديها:
- أنا السبب؟.
قال لها وهو ماط شفتيه:
- نعم زواجي منكِ جعلني مُفلسا، والديون متراكمة عليّ.
كانت تستمع إليه، وعيناها تكادان تخرجان من وقاحة كلامه ومن بروده.
دخلت ليلى عليهم في الغرفة بعدما سمعت صوت طفول تبكي وهي تردد: "ونعم الزوج أنت والله إنك رجل!". حاولت أن تُهدئ روع طفول، ولكن دون جدوى للأسف. كانت طفول قد لمت أغراضها في حقيبتها. وخرجت عائدة إلى بيت أهلها. خرجت وتركت المهندس يستمتع بصوت باب الغرفة الذي كاد أن يتحطم في وجهه. خرجت وهي تقول: "بعض الأبواب يجب أن تغلقها بقوة وإحكام لأن سعادتك في إغلاقها".
عند وصولها إلى بيت أهلها كان المهندس سعيد قد اتصل بوليد، وأبلغه بأن أخته هي سبب كل مآسيه، وهي سبب تدهور وضعه المالي والنفسي، ولكنه كان يتحمل كل ذلك من أجلها، ومن أجله. وها هي الليلة تغادره دون أي احترام ولا تقدير! عندما قابل وليد أخته شتمها، ومد يه عليها، وهو ممسك بشعرها، وصاح بها قائلا:
- أفسدتِ حياة زوجك، وجئتِ هنا لتفسدي حياة أهلك!
لم يترك لها فرصة لتدافع عن نفسها، أو حتى لتخبره بما حدث بينهما. وقالت في نفسها:
- مجتمع يتقاسم الأدوار، الغريب يُعذبك نفسياً، والقريب يعاقبك جسدياً! في لحظات من حياتك يصبح بينك وبين الموت موت! في تلك الحالة وفي ذلك الوضع لا تتذكر إلا من تراهم بصيص أمل ونافذة تعود من خلالها للحياة.
اتصلت بعمها سهيل، وهو رجل يناهز الثمانين من العمر، أغلب أسنان فكه السفلي ساقطة، أسمر، مربوع، أعرج، هادئ في حديثة، تصرفاته تنم عن ذكاء وحكمه. عمها هو الرجل الوحيد الذي ترى فيه رأفة والدها. وعندما أتاها صُدم من حالها ومن الوضع الذي أصبحت فيه. طفول التّي كانت قمرا مبتسما أصبحت مثل طير جريح. بكت وهي تشتكي له. اغرورقت عيناه من حالها. نادى على وليد، ويداها ترتجفان من الانفعال والغضب، وطلب منه أن يتصل بالمهندس الآن. بعد نصف ساعة أتاهم المهندس. ودار حديث بين الرجل الذي لم يدخل مدرسة في حياته سوى مدرسة الحياة، وبين الشابين المتعلمين في أرقى الجامعات.
قال العم سهيل:
- شو السبب يا مهندسنا يا للي خلاكم تتعاركون؟".
فردّ المهندس:
- طفول ما تقدر زوجها، ولا تراعي ظروفه!.
قال العم سهيل:
- كيف يعني؟.
فأجاب المهندس:
- تريدني أسافر بها للخارج، وتطالبني بمصروف يومي، وأكون جالس بجانبها، وهي ولا تهتم، تتابع التلفاز، وكم مرة وأنا أكلمها، ولكنها للأسف لا تبالي.
وقال وليد:
- بنات اليوم صعب التعامل معهن، يا عمي.
فقال العم سهيل:
- إلى الآن لم أقتنع بكلامكم!
وأشار إلى المهندس، ثم أردف:
- وهل نفذت شيء من طلباتها تلك؟
قال المهندس مرتبكا:
- لا أستطيع توفير كل طلباتها. فطلباتها كثيرة.
قاطعه العم سهيل وهو رافع يده في وجهه:
- كلامي واضح يا سعيد.
ثم أشار إلى وليد، وأمره بأن ينادي أخته، لتكون حاضرة بينهم. فأتت. فطلب منها العم سهيل أن تستمع له. وأخبرها بكلام المهندس كاملاً. فضحكت ضحكة المتألم، وهي تهز رأسها قليلاً، ثم قالت:
- يا عمي، من بخل بأقل ما يملك، بمشاعره، وأحاسيسه، لا تصدق أن يتكرم عليك بماله الذي هو أعز ما يملك.
لحظتها وقف المهندس سعيد، وأشار لطفول، قائلا:
- ما الذي ترينه الآن؟
قالت:
- الانفصال هو الحل الوحيد لنا.
وارتفعت حدّة الصراخ بينهما رغم وجود العم سهيل، لكنه لم يهتم، بل طلب منهما الهدوء والجلوس. ولكن المهندس رفض الجلوس، وخرج تاركاً خلفه حياة أنثى مقيدة، وعم متعاطف معها، وأخ يفكر بنفس طريقته.
عند عوته إلى بيت أهله سألته أخته:
- ما الذي جرى؟
فقال:
- طلبت الطلاق، ورفضت. ولكنني سوف أعرف كيف أعلمها معنى الألم ومعنى الانفصال.
صمتت أخته قليلاً ثم قالت:
- ماذا تقصد؟
فقال:
- سوف أعلقها، لا هي متزوجة، ولا هي مطلقة.
قال ذلك، ثم رفع رأسه، وقال:
- الطائر الصغير الذي يهرب من قفصه وهو مربوط، أغلق عليه باب القفص، وأتركه، لا هو حر، يطير، ولا هو في القفص، يعيش بخير.
ثم اتصل بوليد يخبره بأن أخته مطلقة على "حجز مبلغ خمسة عشر ألفاً". سمع عمها سهيل الخبر بعدما اتصلت به طفول، اتصلت به وهي تبكي بحرقة، وتردد بصوت مبحوح متألم:
- لقد علقني، يا عمي. علقني؟ علقني بين أرض وسماء، لقد قيد حياتي كاملة، أخذ مني سعادتي، وتركني أحتضر بين حياة وموت.
مرت بعد ذلك سنة كاملة، تزوج المهندس بامرأة أخرى، وانتقل للعيش في مسقط. ومازالت طفول معلقة تنتظر!، تدفع سنوات من عمرها نتيجة للغرور رجل متشبث ببعض العادات المؤلمة، تدفع ضريبة لاتخاذها قرار الإنفصال من رجل لو استمرت في العيش معه ستتحول حياتها إلى مآس تتجرعها يومياً، كل يوم يمر على العالم سريعاً، يمر عليها بطيئاً ثقيلاً مؤلماً، بعد خمس سنوات باع عمها سهيل أرضاً معه، وأرسل المبلغ إلى المهندس، وفك قيدها. فتحررت.