[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]

” لا أريد أن أسهم بـ"بكائيات" خروج المسيحيين من الموصل، بقدر ما أريد أن اقول بأن جميع أتباع الأديان والطوائف الروحية يمكن أن يعانوا آثار مثل هذه الأوقات الصعبة، كما كانت عليه حال المسلمين في بورما البوذية واليهود في أوروبا والشيعة في بعض الدول. إنها دورات تاريخية قوامها العصبيات الدينية المتعامية.”
ـــــــــــــــــــــــــ
تفاجأ العرب، على سنوات فتح العراق، ببانوراما الأديان التي وجدوها في بلاد الرافدين: ففي القلب العربي للعراق، اي عبر مناطق الفرات الأوسط (دولة المناذرة)، كانت الحيرة مركزاً للنصرانية، بدليل اكتشاف بقايا كنائس وأديرة هناك، اي على مقربة من مدينة النجف التي تخدم اليوم مركزاً إسلامياً رئيسيا. وزيادة على المسيحية واليهودية (من بقايا السبي البابلي لمملكتي يهودا وإسرائيل)، كان هناك الزرادشتيون والمانويون والمجوس، من بين أتباع ديانات أخرى اشتركت جميعاً بسيادة روح التسامح والتعايش، نظراً لزئبقية الخطوط الفاصلة فيما بينهما واحترام الجميع لمبدأ التعايش.
وإذا كان المسيحيون من أبرز الجماعات الدينية الموجودة في العراق، فانهم، وعلى أساس ما قدمه الخليفة الراشد الثاني، الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، من أنموذج متسامح يمور بمشاعر الاحترام والمحبة للجميع، فقد عاشوا بسلام آمنين باستثناء جماعات مسيحية حاول عتاة الأعراب فرض الإسلام عليهم بالقوة ،كما يفعل اليوم السفهاء فيما يسمى بـ"داعش"، لذا فقد توجه النصارى إلى الجبال الكأداء التي لم يألفها الفاتحون الصحراويون على سبيل اتخاذها ملاجئاً وحصوناً منيعة تدفع عنهم شرور قسرهم على ترك دينهم.
يبدو لي أنه، في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام والفتوحات، لم يكن الكثير من المسلمين يعون تسامح الإسلام مع أتباع الأديان الأخرى، التوحيدية على نحو خاص، الأمر الذي يفسر لجوء النصارى إلى الجيوب الجبلية الصعبة المنال لحماية أنفسهم وممتلكاتهم وعقائدهم الروحية. ولم يزل رجال الكنيسة في العراق يذكرون قصص أجدادهم اثناء الفتوحات أعلاه، باعتبارها دروساً تعكس إخلاص المرء لإيمانه ولما شبّ عليه من نظام روحي حتى شاب.
مذاك والرافدينيون، مسلمون ويهود وأقليات دينية أخرى، يحتفظون لنصارى العراق بأعمق مشاعر المودة والاحترام والتقدير، نظراً لدورهم المهم في خدمة وطنهم ومواطنيهم والإنسانية عامة. ربما كان "بيت الحكمة" العباسي الذي أسسه الخليفة المأمون أفضل علامة مضيئة بتاريخ نصارى العراق في سياق الخدمة العامة، إذ عرّب اساطين منهم مناجم العلم والمعارف، الفلسفة والحكمة، الطب والهندسة، من بين عيون كتب الثقافات الأخرى لخدمة العربية وثقافتها، نظراً لمعرفتهم باللغات الأجنبية: فكانت خدماتهم لبغداد، كوزموبوليتان العصر الوسيط، عظيمة بكل معنى الكلمة.
أما في العصر الحديث، فلم يتعرض نصارى العراق لأية مضايقات أو ضغوط تذكر، سوى مايتعرضون إليه اليوم من نهب وأفعال قسرية لا تجر على الفاعلين سوى الاحتقار والنظرة الدونية.
في العراق الحديث (1920)، خدم المسيحيون في جميع مضامير الحياة: فكان منهم العلماء الكبار والباحثين الأفاضل والأطباء النابهين والضباط الأشاوس، زد على ذلك اصحاب الحرف والمهن الذين اسهموا في نهضة العراق الحديثة.
وإذا كان ما يقاسونه نصارى العراق اليوم هو حلقة من دورة تاريخية مختلة، فان للمرء أن يتيقن بأنهم سيتجاوزون الأزمة ويحافظون على إيمانهم الروحي وأموالهم وأعراضهم كما فعلوا في دورات تاريخية مختلة سابقة.
والحق اقول، لا أريد أن أسهم بـ"بكائيات" خروج المسيحيين من الموصل، بقدر ما أريد أن اقول بأن جميع أتباع الأديان والطوائف الروحية يمكن أن يعانوا آثار مثل هذه الأوقات الصعبة، كما كانت عليه حال المسلمين في بورما البوذية واليهود في أوروبا والشيعة في بعض الدول. إنها دورات تاريخية قوامها العصبيات الدينية المتعامية. بيد أن عليّ أن أعترف بذرف الدموع كلما تمشيت في "عقد النصارى" الذي احتضنني طفلاً، فتعلمت الأبجدية، مستذكراً اصحاب الفضل عليّ من أمثال المغفور له "ميخائيل حنا دابش"، رحمة الله عليه.