[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/ibrahim.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]ابراهيم بدوي[/author]
” .. تطور الأيديولوجية الاشتراكية منذ امتلاك أدوات الإنتاج، وحتى الدخول في اقتصاد رأسمالي بقواعد اجتماعية يؤكد نجاحها كفكرة، استطاعت أن تصمد في الحكم لعقود سواء في المانية شرودر، أو عمال بريطانيا في التسعينيات، أو من خلال عقود حكم اليسار الاشتراكي في الدول الاسكندنافية،”

أظهر الصراع الدائر بين الغرب من جهة والدول التي تنافس حول العالم وعلى رأسها روسيا والصين، غياب الأيديولوجية بشكل جلي، وكما تحدثنا في المقال السابق من أن غياب الأيديولوجية أسقط سلاحا طالما استخدمه الغرب، ضد الدول المناوئة له، واستغلال الصورة الذهنية التي رسمت للأيدلوجيات المناوئة للغرب خاصة الشيوعية والاشتراكية، بالإضافة إلى أن غياب الأيديلوجية أتاح حرية في الحركة للدول التي تخلت عن أيديلوجيتها في إقامة تحالفات متغايرة، أو تحييد بعد مناطق النفوذ دون الخوف من الغزو الأيديولوجي الذي كان مرتبطا بالصراع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبرغم إقرار كافة الأطراف المتصارعة لهذا الواقع، إلا أن هناك بعض التساؤلات طرحت نفسها حول السرعة التي غابت بها بعض أيديولوجيات القرن الماضي، وخرجت من الصراع، فيما بقيت بعضها صامدة كالاشتراكية الديمقراطية، وواصلت التنافس على الحكم في معظم الديمقراطيات حول العالم.
الحقيقة أن مرحلة التطبيق لأي أيديولوجية هو أهم عامل من عوامل بقائها وصمودها، فالتطبيق القائم على قراءة جيدة للواقع، والذي ينظر للمستقبل بعيد المدى، والذي يضع مساحة من تطوير الفكر وفق مجريات كل عصر، أحد عوامل بقاء الأيديولوجية، فتطور الأيديولوجية الاشتراكية منذ امتلاك أدوات الإنتاج، وحتى الدخول في اقتصاد رأسمالي بقواعد اجتماعية يؤكد نجاحها كفكرة، استطاعت أن تصمد في الحكم لعقود سواء في المانية شرودر، أو عمال بريطانيا في التسعينيات، أو من خلال عقود حكم اليسار الاشتراكي في الدول الاسكندنافية، كلها نماذج تؤكد أن التجربة الاشتراكية كانت أكثر تطورا وموائمة للتغيرات التي شهدتها الأحداث العالمية في القرن الماضي والذي سبقه.
ولعل أبرز ما ساهم في سقوط الشيوعية هو إصرار الزعيم السوفيتي ستالين على إقصاء المنافسين من التروتسكين الذين رفضوا شعارات ستالين بضرورة مراعاة التطور غير المتكافئ للأقطار، وحديثه عن نظرية الجبهة الشعبية، حيث كان تروتسكي والمؤمنون بأفكاره يسعون إلى تحويل الفكر الشيوعي أو الاشتراكي إلى ما أسموه ثورة عالمية، وكان جراء ملاحقتهم والقضاء عليهم، القضاء على الفكر العالمي للشيوعية الذي كانوا يتبنونه لحد بعيد، وبقيت نماذج قائمة على خصوصية قطرية في روسيا ستالين، كما في الصين وكوبا، حيث كانت القطرية في الفكر الشيوعي وما شهده مطبقوه من قمع واستبداد والقضاء على الفكرة العالمية، أحد أهم العوامل، للقضاء على هذا الفكر، حتى مع دخول بعض أنصاره في العملية الديمقراطية الغربية، كان الفكر الشيوعي بعيد جدا عن تطلعات الشعوب واختياراتهم على عكس الفكر الاشتراكي الذي تطور وراعي الوضع، بل أنه توجه اقتصاديا نحو اقتصاد حر يسعى إلى أهدافه الاشتراكية بأدوات مثل الضريبة التصاعدية، ومشاركة القطاع الخاص إلى حد ما في امتلاك أدوات الإنتاج دون حصرها في يد الدولة.
ويأتي أبرز الجزيئات التي أثرت على الشيوعية كفكرة وأدت إلى العزوف عنها، ما شهدته الفترات الشيوعية في روسيا والصين وغيرها من الأقطار من استبداد وانهيار في المنظومة الحقوقية، وغياب الحافز الإنتاجي، وربط الفكر وتطبيقه بشخصية الزعيم هنا أو هناك، إضافة إلى أن طبيعة ومكونات الاقتصاد العالمي تغيرت بشكل كبير عن نظريات الشيوعية من ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي وستالين، وغيرهم من المنظرين والمطبقين للشيوعية، فالفكرة تقوم على فرضية حكم الطبقة العاملة، والفلاحين في قيادة المجتمع سواء عبر الاتحاد الاشتراكي في الفكر الستاليني أو من خلال ثورة من عمال وفلاحين في الفكر الشيوعي الآخر، حيث قدمت كافة الأفكار الشيوعية حديثا صادقا مستمدا من طبيعة الاقتصاد الرأسمالي وقتها، والذي كان يتكون من رأسمالي مسيطر على مجموعة كبيرة من العمال، فكان الإحساس بالظلم الاجتماعي هو المحرك الأساسي، والبيئة الخصبة للفكر الشيوعي.
إلا أن هذا يتعارض مع التكوين الاقتصادي الحالي، فالاقتصاد العالمي أو القطري في معظم بلدان العالم المتقدم اقتصاديا، يقوم على أكثر من 90% من المؤسسات الصغيرة المتوسطة، التي تتسم بأن صاحب الشركة قد يكون نصف عمالها، وهي مؤسسات تمتلك طموح التطور المستمر، لذا فالمكون الاقتصادي الأساسي يتكون من أفراد يسعون وراء المعجزة في التطور والترقي الاقتصادي والاجتماعي، لذا فشعارات كديكتاتورية البروليتاريا لن يجد أذانا صاغية في تلك الأوساط من الطبقة الوسطى بكافة مكوناتها، في حين رأت الاشتراكية الديمقراطية، أن تلك الفئة تقع وسط منظومتها الفكرية والتطبيقية، حيث سعت إلى دعم تلك الفئة الحالمة بالتطور الاقتصادي، وتقليل دورها الضريبي في المنظومة الضريبية، وهي قدرة الاشتراكيبن في مواكبة التطور الاقتصادي والاجتماعي، وقراءة جيدة لأدوات الإنتاج ودورهم وحجمهم في المنظومة الاجتماعية، ومدى تأثيرها على عملية التصويت التي هي جوهر الديمقراطيات.