[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” حول أداء الاقتصاد المصري خلال السبعين عاما الماضية منذ عام 1948م ـ حتى 2018م ,نٌشر مقال للمفكر الاقتصادي الدكتور جلال أمين استعرض خلاله مسيرة الاقتصاد المصري في أواخر العهد الملكي وبدايات ثورة 23 يوليو 1952م مرورا بالسنوات التالية لتأميم قناة السويس ونكسة 1967م وحرب اكتوبر 1973م وما تلاها, مرورا بعهد مبارك, ووصولا للفترة الحالية.”

فتحت عينيَّ على الحياة منذ أكثر من نصف قرن , وعلى مسامعي تتردد عبارات الشكوى من الغلاء وارتفاع الأسعار, ومازلت أتذكر هتافات المصريين في انتفاضة يناير 1977م :" سيد بيه يا سيد بيه ..كيلو اللحمة بقى بجنيه" (المقصود سيد مرعي رئيس مجلس الشعب المصري وقتئذٍ وصهر الرئيس الراحل أنور السادات) , وبعد مرور 40 عاما أصبح "كيلو اللحمة" بـ 150 جنيها, وازدادت الأزمة الاقتصادية اشتعالا ولم تعد مقصورة على مصر, بل امتدت إلى معظم دول العالم .
حول أداء الاقتصاد المصري خلال السبعين عاما الماضية منذ عام 1948م ـ حتى 2018م ,نٌشر مقال للمفكر الاقتصادي الدكتور جلال أمين استعرض خلاله مسيرة الاقتصاد المصري في أواخر العهد الملكي وبدايات ثورة 23 يوليو 1952م مرورا بالسنوات التالية لتأميم قناة السويس ونكسة 1967م وحرب اكتوبر 1973م وما تلاها, مرورا بعهد مبارك, ووصولا للفترة الحالية.
خلص الكاتب إلى أن الاقتصاد المصري لم يشهد فترات ازدهار حقيقية خلال هذه العقود, سوى 9 سنوات فقط ؛ حيث وضع الكاتب ثلاثة معايير للحكم على الأداء الاقتصادي لدولة ما في فترة معينة وهي: 1ـ معدل نمو الدخل أو الناتج القومي للفرد , 2ـ مدى التحسن أو التدهور في البنيان أو الهيكل الاقتصادي, أي نوع التغيير في مكونات الناتج القومي كزيادة نصيب الصناعة أو انخفاضها مقارنة بقطاع الخدمات , 3ـ مدى التحسن أو التدهور في توزيع الدخل : هل زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية أم نقصت.
ويرى أمين أن وضع الاقتصاد المصري قبل ثورة يوليو كان مشوها, فرغم تحقيق فائض في ميزان المدفوعات ومداينة مصر للأمبراطورية البريطانية الخارجة من الحرب العالمية الثانية محطمة ومنهكة ومعتمدة على المعونة الأميركية (مشروع مارشال) كان طبيعيا أن يساوي الجنيه المصري جنيها أسترلينيا أو بضع دولارات أميركية, ولكنها كانت ديونا معدومة طبقا لاتفاقية 1936م التي فرضت على مصر دخول الحرب بجانب الإنجليز, وكانت هذه الديون عبارة عن خدمات لوجستية واستخدام الطرق والموانئ المصرية واستيراد مواد نفطية وغلال وسلع غذائية لتموين الجيش الإنجليزي في حربه التي طالت سبع سنوات ضد دول المحور.
ولكن كان هناك خلل كبير في توزيع الدخل, فبينما كان 1% من المصريين ممثلين في الإقطاعيين وكبار الملاك والسماسرة المضاربين في بورصة القطن يحتكرون الثروة كان هناك أكثر من عشرين مليون مصري محرومين من الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ورعاية اجتماعية, وتستطيع أن ترى آثار هذا التفاوت الطبقي ماثلة في العديد من القرى المصرية حتى الآن, حيث تجد قصرا منيفا يتصدر مدخل القرية محاطاً بالأراضي الزراعية من كافة الاتجاهات ( تحول الآن إلى مدرسة أو وحدة صحية تخدم أهل القرية) وعلى مرمى البصر تقبع منازل الفلاحين التي كانت من الطوب اللبن "الطين", وكان "الباشا" الإقطاعي يملك الأرض ومن عليها وكان الفلاحون يعملون تقريبا بالسخرة أو مقابل الحصول على ما يسد رمقهم من المحاصيل التي كانت تصب في خزائن الباشوات , ووصل الأمر في عام 1950م أن امتعض الملك فاروق من انتشار ظاهرة الحفاء بين المصريين فأطلق حملة للتبرع لشراء أحذية للفلاحين, في الوقت الذي كانت الطبقة الغنية تحيا حياة البذخ والرفاهية التي تفوق أميركا و أوروبا.
ويرى جلال أمين أن الاقتصاد المصري شهد حالة من الازدهار الحقيقي في التسع سنوات التالية لتأميم قناة السويس (56ـ 1965) وهي سنوات الخطة الخمسية الأولى؛ حيث تراوح معدل النمو بين 6 و7% وهي النسبة التي لم يصل إليها في الخمسين عاما السابقة ولم يبلغها بعد ذلك إلا في السنوات العشر التالية للانفتاح الاقتصادي ( من 75 ـ 1985م) والتي شهدت تدهورا في البنيان الاقتصادي بعد تراجع نصيب الصناعة بشدة لمصلحة قطاع الخدمات , بينما في مرحلة (56ـ 65) اقترن النمو الاقتصادي بعدالة توزيع الدخل وزيادة الإنتاج , بعد تطبيق عبد الناصر قوانين الإصلاح الزراعي ووضع حدا أقصى لملكية الأراضي الزراعية ووزع بقية الأراضي على صغار الفلاحين وتلاها بتأميم البنوك والشركات الأجنبية.
هذه الإصلاحات الاجتماعية تجاوب معها الفلاح والعامل المصري وتحت تأثير المد الثوري ارتفعت إنتاجية الأراضي الزراعية وحققت مصر فائضا للتصدير في معظم المحاصيل ونفس الشيء في قطاع الصناعة الذي زادت إنتاجيته واستطاعت مصر تحقيق الاكتفاء الذاتي في كثير من السلع والمنتجات وتوفير فرص العمل المجزية التي رفعت شأن الفقراء وجعلتهم قادرين على تعليم أبنائهم والارتقاء في السلم الاجتماعي.
اتسمت هذه الفترة باشتداد ساعد الدولة المصرية وقيامها بدور أساسي في توجيه النشاط الاقتصادي عكس ما سمي بالحرية الاقتصادية الذي ساد أيام الملكية وسياسة الانفتاح (السداح مداح) الذي طبق بعد ذلك.
هذه التجربة تدحض في رأي جلال أمين الزعم الشائع بفشل الدولة في إدارة الاقتصاد والدعوات المتكررة لترك الساحة للقطاع الخاص وهو مايراه الكاتب "موضة" من موضات الفكر الاقتصادي التي تنتشر في فترة وتختفي في أخرى دون أن يستند ذلك لمبررات اقتصادية, بل يعتمد فقط على درجة القوة أو الضعف التي يتسم بها القطاع الخاص في مواجهة القطاع العام, وهذا التقلب يرجع لأسباب سياسية دون سند من الواقع الاقتصادي, ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي تمتع المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي بسمعة اقتصادية طيبة وكانت المنتجات الصناعية السوفيتية والتشيكية والألمانية الشرقية تفوق مثيلاتها الغربية وتقل عنها في السعر. ولكن عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو اشتد الهجوم على تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية إلى حد زعم البعض ومنهم "فوكوياما" في كتابه (نهاية التاريخ) أنه بسقوط الاتحاد السوفيتي انتهى عصر الأيدلوجيات وتدخل الدولة في الاقتصاد إلى الأبد.
وبدأ الترويج لمزايا الانفتاح الاقتصادي ورفض حماية الدول لاقتصادها وبات من المسلمات أن أي توجيه من الدولة ضرره أكثر من نفعه , وأنه لابد من ترك الحرية للقطاع الخاص للسيطرة على كافة الأنشطة الاقتصادية.
حدث هذا في مصر كما حدث في غيرها من الدول, بل أصاب الصين التي كانت مثالا للاقتصاد الموجه, فرأيناها تفتح أراضيها وأسواقها للشركات متعددة الجنسيات التي سيطرت على إنتاج السلع والخدمات.
يرى الكاتب أن النفوذ المتزايد لهذه الشركات لا يعني أنها تستحق ما حصلت عليه من مكاسب, لأنها حققتها على حساب العمال والمستهلكين, فهذه المكاسب لم تتحقق مقابل خدمات حقيقية قدمتها هذه الشركات ولكن نتيجة سلب الإرادة والإلحاح بعدما سيطرت على "الميديا" عن طريق الإعلانات والبرامج والمسلسلات التي تروض المستهلكين وتدفعهم لشراء سلع لا يحتاجون إليها , وتقهر العمال بإجبارهم على قبول أجور أقل من مساهمتهم الحقيقية في الإنتاج .
وفي الأخير يؤكد الكاتب على ضرورة عودة دورالدولة في رسم السياسة الاقتصادية وتوجيه قطاع الأعمال والرقابة على الأسواق وتوفير فرص العمل وضمان العدالة في توزيع الدخل.