[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”... رجل الأعمال ترامب الذي لبس كسوة الرئيس هو الذي وعد أباطرة الصناعة الأميركية أيام حملته الانتخابية بالخروج مما سماه الفخ الفرنسي لأنه حسب رأيه فخ نصبته باريس لإيقاع الصناعة الأميركية في مطبات المنافسات الصينية والأوروبية وقص أجنحتها في مجال التصدير للصلب والحديد والألمنيوم والسيارات والتجهيزات والسلاح !”

أثارت زيارة الدولة التي أداها مؤخرا الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى واشنطن عاصفة غير مسبوقة من التعليقات تراوحت جميعها بين الإقرار بفشلها وبين التنويه بجرأة الرئيس الفرنسي الشاب الذي شبهوا ردود فعله بالسلوكيات الديجولية (نسبة للجنرال ديجول) أي المتمسك بسيادة قرار الجمهورية الفرنسية وعدم تذيلها للحليف الأميركي الأكبر. الفشل كما لاحظنا ميز هذه الزيارة رغم ما أحاط بها من أجواء العناق وتفاقم منسوب القبل "التلقائية" أو الدبلوماسية بين الرجلين هو فشل ذريع لما أراده (ماكرون) لأن فرنسا عادت بخفي حنين من هذه الزيارة. أولا كانت باريس ترغب في أن يعدل دونالد ترامب عن قراره بالخروج من معاهدة باريس العالمية حول المناخ (والتي وقعها الرئيس أوباما مع 190 من دول العالم يوم 12 ديسمبر 2015) و كانت هذه المعاهدة محل شرف أثيل لفرنسا حيث نجحت في ضم 190 دولة الى مشروعها فالتزمت باتخاذ إجراءات قاسية لحماية طبقة الأوزون والتخفيض التدريجي في درجات تلويث الهواء بما تضخه المصانع من دخان ملوث. وكان انضمام أميركا لهذه المعاهدة هو المكسب الأهم لدى باريس لكن حلول الرئيس ترامب المفاجئ في البيت الأبيض عوضا عن السيدة هيلاري كلنتون المتحمسة للمناخ كان الطالع الأسود للمعاهدة لأن رجل الأعمال ترامب الذي لبس كسوة الرئيس هو الذي وعد أباطرة الصناعة الأميركية أيام حملته الانتخابية بالخروج مما سماه الفخ الفرنسي لأنه حسب رأيه فخ نصبته باريس لإيقاع الصناعة الأميركية في مطبات المنافسات الصينية والأوروبية وقص أجنحتها في مجال التصدير للصلب والحديد والألمنيوم والسيارات والتجهيزات والسلاح ! ويعتقد ترامب أن باريس ذاتها رومانسية ومغرر بها من قبل اللوبيات الروسية والصينية والألمانية القوية التي أكلت الكستناء الساخن بأصابع فرنسا كما يقول المثل الفرنسي! هذا الإخفاق الفرنسي يضاف إلى إخفاق سياسي واستراتيجي ثان سجلته زيارة ماكرون وهو الفشل في إثناء ترامب عن تهديده بالتراجع عن معاهدة النووي الإيراني الموقعة يوم 14 يوليو 2015 بين طهران والدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن في مدينة فيانا عاصمة النمسا واعتبرتها الدول الخمسة انتصارا باهرا لتعطيل برنامج إيران النووي ومنع الجمهورية الإسلامية من بلوغ خط امتلاك السلاح النووي! في هذه النقطة بالذات تبين التضاد بين باريس وواشنطن لا فقط في تقييم المعاهدة مع طهران بل في كيفية مواجهة تحديات الحرب والسلم في القرن الحادي والعشرين فبينما ترى باريس أن اتفاقا مع إيران حول تحديد منسوب تخصيب اليورانيوم كاف وكفيل بقطع الطريق النووية العسكرية أمام طهران ترى واشنطن بصراحة بأن موقف إسرائيل هو الأفضل لأنه يعتمد على التهديد بالقوة العسكرية ولا يثق في التزامات إيران الراهنة.نعم هي ليست مجرد اختلافات شكلية حول الوسائل الجيوستراتيجية بل هي خلافات جوهرية حول الغايات البعيدة والطرق الأنجع لضمان تفوق الغرب المنتصر وتسخير بقية العالم لخدمته و تزويده بالطاقة وشل حركات أعدائه الحقيقيين أو الافتراضيين. ثم إن للاتحاد الأوروبي مع إيران مصالح اقتصادية (منها مثلا شراء طهران لخطوطها الجوية 120 طائرة إيرباص على سنوات) كما أن لها مصالح استراتيجية تشكلت من أيام الشاه لأن مكانة إيران الجغرافية عززت مكانتها السياسية فهي لوقرأتم الخارطة تقع بين قارة آسيوية صاعدة وشرق أوسط متوتر وخليج ثري بالطاقة وتطل على معابر بحرية حيوية تتحكم في أنابيب نقل النفط والغاز وتؤثر على النقل التجاري أو العسكري لمنطقة تقع في قلب العالم. ومن هنا جاء إخفاق باريس في تحويل وجهة الرئيس ترامب عن نية إلغاء المعاهدة النووية وباريس تدرك بأن ردود فعل الجمهورية الإسلامية على إلغاء المعاهدة ستكون مشروعة في منظور القانون الدولي وسوف تتيح لطهران العودة الى تخصيب اليورانيوم وتصنيع سلاحها النووي مثل جاراتها الباكستان والهند ومثل غريمتها إسرائيل. كل هذا الفشل الفرنسي تم على خلفية قبلات حارة وعناقات حميمية أسالت نهرا من التعليقات الساخرة في وسائل الإعلام الفرنسية والأوروبية وحتى الأميركية التي ملأت أعمدتها وشاشاتها بالمشاهد غير المعتادة والتندر على أعمار زوجتي الرجلين وعلى التخلي عن نواميس البروتوكول مثل قيام ترامب بتنظيف كتف ماكرون من القشرة المتساقطة من شعره! على كل فإن وراء هذه القمة ونوادرها أبعادا جيوستراتيجية جدية وحساسة تؤكد لنا أن الاتحاد الأوروبي يطمح إلى أن يكون قوة عظمى اقتصاديا وسياسيا وعسكريا بالتالي الخروج تدريجيا عن بيت الطاعة الأميركي فلا ننسى أن أول خطاب انتخابي ألقاه ترامب في أكتوبر 2016 تضمن تهديدا صريحا للقارة الأوروبية العجوز داعيا إياها إلى تحمل مسؤولياتها و دفع الأموال لواشنطن من أجل تأمين سلامتها! ولا يغيب عن أذهان القراء الكرام أنه في مقابل هذا الإخفاق نشهد نجاح قمة الكوريتين والعناق الآخر بين زعيمي الشطرين وهو ما يفتح الطريق أمام ترامب لعقد القمة الأهم مع القوة النووية الفعلية في بيونج يانج.