[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” .. معظمنا يرى الصورة محدودة؛ حسب فهمه للأحداث ومن خلال انتماءاته وقناعاته, ولكن متخذ القرار السياسي لابد أن يرتكز قراره على محددات وأسس موضوعية ورؤية شاملة للأوضاع المحلية والإقليمية والدولية ويدرس ردود الأفعال الداخلية والخارجية بعناية ويُنحي العاطفة والانتماءات والأيديولوجية ويضع نصب عينية المصلحة العليا للوطن.”


ربما يستعصى على البعض منا أحيانا فهم أو استيعاب بعض المواقف السياسية, وربما يخلط بعضنا بين التوازن والتناقض في إدارة العلاقات الدولية, وينجر آخرون وراء مشاعرهم وانفعالاتهم ويتوقعون من متخذ القرار السياسي ردود أفعال عنيفة صدامية أو مواقف متطرفة تتناسب مع الموقف من وجهة نظره, ثم ما يلبث أن يصاب بالإحباط نتيجة صدور قرار معاكس أو رد فعل هادئ لا يتناسب مع الأحداث.
فمعظمنا يرى الصورة محدودة؛ حسب فهمه للأحداث ومن خلال انتماءاته وقناعاته , ولكن متخذ القرار السياسي لابد أن يرتكز قراره على محددات وأسس موضوعية ورؤية شاملة للأوضاع المحلية والإقليمية والدولية ويدرس ردود الأفعال الداخلية والخارجية بعناية ويُنحي العاطفة والانتماءات والأيديولوجية ويضع نصب عينية المصلحة العليا للوطن.
أتحدث هنا عن المدرسة الدبلوماسية العمانية الرصينة القائمة على الدراسة والتحليل والتقييم العلمي للمواقف والمخاطر, والتي ربما يساء فهم مواقفها أحياناً, ولكن بعد فترة تتكشف الأمور وتنبئ الأحداث بمكنوناتها ويتبين صواب السياسات والمواقف العمانية, هذه المدرسة الدبلوماسية التي أرسى قواعدها جلالة السلطان قابوس ـ حفظه الله ورعاه ـ مع بزوغ فجر النهضة المباركة في العام 1970م , والتي طالما برهنت على دورها الإيجابي في نشر السلام والاستقرار والسعي لحل الخلافات العربية والإقليمية والمساعدة قدر استطاعتها في تجنيب المنطقة الحروب والصراعات والحؤول دون اشتعال الأزمات ودعم الجهود العربية والدولية لفض النزاعات ونشر الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة.
هذه الثوابت التي حرصت عليها السياسة الخارجية العمانية وأكد عليها جلالة السلطان ـ أعزه الله ـ في أكثر من مناسبة, أكد عليها مؤخرا المندوب الدائم للسلطنة لدى الأمم المتحدة في بيانه الذي ألقاه أمام اجتماع الأمم المتحدة الرفيع المستوى حول بناء واستدامة السلام الذي عقد في نيويورك مؤخرا.
هذه السياسة العمانية المتفردة, أثبتت نجاعتها ـ في التعاطي مع كثير من أزمات المنطقة التي تسير وسط حقول من الألغام والفخاخ المتفجرة ـ فخلال الأزمات المتعددة التي مرت بها المنطقة على مدار العقود الماضية؛ من المقاطعة العربية لمصر في مؤتمر بغداد بسبب توقيع السادات لمعاهدة كامب ديفيد المنفردة مع إسرائيل والحرب الإيرانية العراقية, وأزمة اجتياح صدام حسين للكويت والغزو الأميركي للعراق, كانت مواقف السلطنة واضحة, وهو السعي للتهدئة وعدم التصعيد والابتعاد عن القرارات الانفعالية, ودعوة الأطراف المتصارعة للجلوس على طاولة الحوار, والتعاون لإحلال التفاهم والسلام مكان العداوة والكراهية.
وحافظت السلطنة رغم هذه التحديات والأزمات المتوالية على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف.
هذه المواقف الثابتة الخالية من المطامع والأغراض؛ أعطت مصداقية للسياسة الخارجية العمانية, وجعلت هناك درجة كبيرة من الثقة والاحترام والتفهم للمواقف السياسية العمانية مهما كان التباين في الرؤى والاختلاف في وجهات النظر.
ومازالت الأزمات تطل برأسها على المنطقة, خصوصا مع اشتعال أحداث مايسمى بالربيع العربي وتحوله إلى حروب أهلية في سوريا واليمن وليبيا, والتي كان للسلطنة موقف ثابت منها برفض استخدام القوة والتدخلات الأجنبية ودعوة أطراف النزاع للتوقف عن العنف والجلوس على مائدة الحوار للتوصل لحل يحقن دماء الأبرياء ويوقف الموت والدمار ويحافظ على وحدة واستقلال هذه الدول العربية.
واستضافت السلطنة في سبيل ذلك اجتماعات متعددة للفرقاء اليمنيين والليبيين ومازالت تشارك بجهود حثيثة لوقف الحرب في سوريا, فاستضافت اجتماعات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي تحت رعاية الأمم المتحدة في مدينة صلالة بعد فشل الأطراف الليبية في الاجتماع على الأراضي الليبية أو أيٍ من دول الجوار مخافة الانحياز لطرف من الأطراف, ولكنهم جميعا رحبوا باستضافة السلطنة للاجتماعات, لاتفاقهم على أنها الوسيط النزيه القادر على إدارة مشاورات كتابة مشروع الدستور الليبي الجديد بتجرد وحيادية.
في ملف العلاقات مع إيران, حافظت السلطنة على علاقات متوازنة مع الجارة الشرقية ؛ تقوم على الثقة والاحترام المتبادل وحسن الجوار والتعاون لما فيه مصلحة البلدين ودول مجلس التعاون الخليجي, وكانت هذه السياسة راسخة منذ حكم الشاه, واستمرت مع مجئ الثورة الإسلامية وتوثقت هذه العلاقات بعد زيارة جلالة السلطان قابوس ـ حفظه الله ورعاه ـ لطهران في العام 2009م , وتعززت بالزيارة الأخيرة في العام 2013م.
وتوجت هذه العلاقات باختيار السلطنة لاستضافة مفاوضات واجتماعات الملف النووي الإيراني بين إيران والدول الكبرى (5+1) والتي تكللت بالتوقيع على اتفاق أنهى أزمة الملف النووي مقابل رفع العقوبات الغربية على إيران.
علاقة السلطنة بإيران لم تكن يوما على حساب علاقاتها بشقيقاتها دول مجلس التعاون الخليجي ولم يكن هناك تعارض بين العلاقتين, بل كانت الجهود العمانية تصب في اتجاه إزالة العقبات عن طريق إقامة علاقات طبيعية بين إيران ودول المجلس التي تربطهما الجغرافيا والتاريخ المشترك ووحدة الدين وعلاقات التعاون وحسن الجوار, وسعت السلطنة إلى أن تكون هذه العلاقة قائمة على احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية, وإلى حد بعيد تتفهم دول المجلس الدور العماني وحتمية وجود طرف خليجي لديه القدرة على التواصل مع إيران ومنع وصول الخلافات لنقطة الاشتعال.
بالنسبة للأزمة داخل مجلس التعاون الخليجي, رفضت السلطنة منذ الوهلة الأولى الانجرار وراء دعوات شق الصف والاستقطاب ودعمت جهود الوساطة الكويتية لحل الأزمة, ووقفت على مسافة واحدة من الطرفين في محاولة صادقة لعودة المياه لمجاريها بين الأشقاء, مع المحافظة على كيان مجلس التعاون ورفض التفتيت والإقصاء لأي من أعضائه.