نبدأ الحديث بهذه الآية الكريمة حكايةً عن إحدى ابنتي شعيب، والتي تحدد فيها شروط شاغل الوظيفة. سميَّه ما شئت؛ أجيراً أو عاملاً أو موظفاً، يقول الله تبارك وتعالى: { قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} سورة القصص الآية"26".
نعم القوة والأمانة شرطان أساسيان للشغل الوظيفة، شرطان جامعان لبقية الشروط الأخرى، شرطان جوهريان لابد من توفرهما في شاغل الوظيفة، الشرط الأول القوة، أي قوة على العمل؛ للعطاء والإنجاز، والشرط الثاني الأمانة، أي أمانة في الأداء للإتقان والجودة.
إن الوظيفة العامة أو الخاصة؛ أي الوظيفة الحكومية، أو الوظيفة الأهلية؛ بكل أنواعها وأصنافها، وبكل أشكالها وفروعها، وبكل اختصاصاتها وصلاحياتها، وبكل حدودها ومستوياتها، وبكل مناصبها ورتبها، وبكل درجاتها ومراتبها هي خدمة عامة للناس كافة؛ الهدف منها قضاء حوائجهم، والغاية منها تلبية مطالبهم، ومن هنا فالوظيفة ضرورة إنسانية، ومسؤولية وطنية، ومطلب إنساني، حكمها في الإسلام واجب ديني، وفريضة شرعية؛ تقتضيها المصلحة العليا للوطن والمواطن، وتستدعيها المنفعة العامة للبلاد والعباد؛ فمن يقوم بهذه الوظيفة على أكمل وجه، إن لم يقم بها أبناء الوطن، ومن يؤدي هذه الوظيفة برعاية وإتقان إن لم يؤدها أبناء الوطن؛ فهي منهم ولهم، وهي بسببهم، وعائدة إليهم؛ إيجابا وسلباً، تقدماً وتأخراً، تحضراً وتخلفاً.
إن حقيقة الوظيفة تكليف وإلزام، وأمانة ومسؤولية، وليست حقاً أو وجاهةً، وليست تسلطاً أو استغلالاً؛ ولكي يؤدي الإنسان عمله بأمانة على أكمل وجه، ولكي يقدر وظيفته حق التقدير، ويرعاها حق الرعاية؛ لابد من إصلاحه؛ إصلاح نفسه وضميره، إصلاح قلبه وقالبه، إصلاح ظاهره وباطنه، وهذا لا يتحقق إلا بتربيته وإعداده إعداداً إيمانياً يقوم على مبدأ مراقبة الله تعالى، والشعور بالأمانة، وتقدير الوظيفة، والإحساس بالمسؤولية، وإدراك واجب الولاء والانتماء للوطن.
وعليه فإن دوام هذه الوظيفة واستمرارها لشاغلها، مرهون بصلاحيته، فمن يثبت عدم صلاحيته لهذه الوظيفة، فإنه ينحى عنها ويعزل ويحاسب. فالصلاحية هي أساس الاختيار والتعيين، وأساس الإنتاج والعطاء، وأساس الاستمرار والبقاء، فهذا الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يعين عماله على أساس الصلاحية، والقدرة والجدارة والكفاءة، وكان يراقبهم ويتابعهم؛ توجيهاً ونصحاً، فإذا أخل أحدهم بعمله، أو أساء في وظيفته، أو تلاعب بمسؤوليته، أو خان أمانته نحاه عنها، وعزله وحاسبه.
فالمنهج القويم والمبدأ السديد في الإسلام، وعند كل العقلاء والحكماء والمنصفين، يقوم على وجود الشخص المناسب في المكان المناسب، وهذا ضمان لسلامة العمل واستمراره، وضمان لحسن الأداء وجودته؛ فإسناد الأمر إلى غير أهله تضييع للأمانة، وهو من علامات يوم القيامة، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: " إذا ضيعتِ الأمانة، فانتظرِ الساعة" قيل وما ضيعها يا رسول الله؟، قال: " إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فقد ضيعتِ الأمانة".
هناك فرق شاسع، وبون واسع بين التفضيل، وبين المحاباة؛ فالتفضيل أمر محمود؛ يأتي بخير، ويحقق مصلحة. أما المحاباة أمر مذموم؛ لا يأتي بخير، ولا يحقق مصلحة.
التفضيل؛ هو اختصاص شخص بوظيفة كمنصب رفيع بدافع الحكمة؛ لجدارته، وكفاءته، وقدرته، أما المحاباة فهي اختصاص شخص بوظيفة كمنصب رفيع؛ بدافع الهوى، كالمحسوبية البغيضة، أو الواسطة المقيتة، أو المصلحة الشخصية.
التفضيل يؤدي إلى نتائج طيبة، ويحقق ثماراً إيجابية، تسهم في دفع عجلة التمنية والبناء، وفي زيادة الإنتاج والعطاء، وفي ازدهار الوطن، ورخاء المجتمع.
أما المحاباة فتؤدي إلى نتائج سيئة، وعواقب وخيمة، وآثار كارثية؛ منها؛ فساد، وسوء إدارة، وإهمال، وتقصير، وعدم مبالاة، وقلة إنتاج، وتخلف، واختلاسات، ورشاوى، وخيانات؛ حيث تموت القلوب، وتباع الضمائر بأبخس الأثمان، وبأرخص الأسعار، وبحفنة من الدريهمات الزهيدة؛ حيث تعشى الأبصار، وتعمى البصائر، وتتبدل القيم، وتنعكس الموازين، فتهدر الأمانات، وتنقض العهود، وتنسى المروءة، فلا تراعى الأصول ولا تحفظ ، ولا تقدر المعادن ولا تصان.
للحديث بقية.

د/ يوسف بن إبراهيم السرحني