[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. الصدمة التي ضربت التوانسة في القلب وتمثلت في استشهاد خمسة عشر شابا من أفضل جنودنا الأبطال في هجوم مجهول المصادر يرفع ربما شعارات التشدد الديني لكنه يظل شبحا من الأشباح ما دمنا لا نعرف من هو ولا من وراءه ولا من أين جاء (هناك من يقول أن المهاجمين اجتازوا الحدود من الخارج وهناك من يقول أنهم من المحافظات التونسية وهناك من قال انه أعلم السلطات قبل المأساة...”
ـــــــــــــــــــــــ
أصابت بلادي تونس هذا الأسبوع صدمة من صدمات الدم وهي البلاد التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان وهي التي تعود شعبها على العيش بأمان رغم علل السياسة وفقدان البوصلة فالتونسي تعايش منذ عقود مع واقع صعب متشعب تقبل فيه حتى الحرمان من حقوق مشروعة مقابل التمتع بنعمة الأمن خلال نصف قرن فكانت ثورة شبابه في ديسمبر 2010 منعرجا مفصليا متميزا لم تنتج عنه فوضى عارمة كما وقع في ليبيا أو سوريا أو العراق أو اليمن أو حتى مصر فنجت تونس مما أصاب شعوبا عربية أخرى من انهيار مؤسسات الدولة وانتشار الميليشيات واستمرار العنف بل صمدت الدولة التونسية العميقة في وجه المغامرين وساد البلاد نوع من أنواع الوفاق فتشكل مجلس وطني تأسيسي على عجل وارتجال وبشرعية مهزوزة لكنه قام بدور تشريعي رغم تخبطه وقلة زاد معظم النواب من السياسة وثقافة الدولة فأبطأ في أعماله وتلكأ في قراراته وانتقل صلبه بعض النواب من حزب انتخبهم الناس على أساسه إلى أحزاب أخرى لا تمت بأية صلة للحزب الأصلي بحثا عن منافع مادية أو فرارا من مصير مجهول ! لكن هذا المجلس الهش انتهى إلى سن دستور صحيح أنه منقوص ويعوزه الانغراس في الهوية لكنه على كل حال يفي بضرورة توضيح الحقوق والواجبات ثم إن مؤسسات عتيدة كالجيش وأجهزة الأمن وهياكل الإدارة لم يصبها التصدع رغم محاولات سياسيين فاشلين وعاجزين لاختراقها وتوظيفها لخدمة أحزاب أو مصالح. ونجحت تونس بشهادة المراقبين والخبراء ومقارنة بزميلاتها من دول ما يعرف بالربيع العربي في النجاة من الفتنة وتوصلت النخب بالرغم عنها وتحت ضغط الرأي العام التونسي الوطني المثقف والواعي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط غير مسيسة بعد تجارب حزبية فاشلة ولكنها غير كارثية وبدأنا نستعد لخوض غمارانتخابات تشريعية ورئاسية تحددت مواعيدها قبل نهاية السنة الجارية وشرعنا نعد العدة لتحقيق انتقال سلمي وسليم من مرحلة المؤقت إلى مرحلة الاستقرار لخمسة أعوام تكون هي الكفيلة باستعادة هيبة الدولة بالعدل لا بالبطش وباستعادة الاستثمارات وتركيز الثقة المفقودة بين المواطن
ومؤسساته والدخول ببلادنا إلى عهد الأمان كما كان يسميه الوزير خير الدين باشا سنة 1857.
لكن هذه الصدمة التي ضربت التوانسة في القلب وتمثلت في استشهاد خمسة عشر شابا من أفضل جنودنا الأبطال في هجوم مجهول المصادر يرفع ربما شعارات التشدد الديني لكنه يظل شبحا من الأشباح ما دمنا لا نعرف من هو ولا من وراءه ولا من أين جاء (هناك من يقول أن المهاجمين اجتازوا الحدود من الخارج وهناك من يقول أنهم من المحافظات التونسية وهناك من قال انه أعلم السلطات قبل المأساة وكلها افتراضات ما دمنا لا نعلم والله يعلم) إلا أننا بدأنا نتعرف على نوعية الهجومات وأسلحة المهاجمين وندرك أنه تنظيم يتمكن من الضرب بجاهزية عسكرية ولوجستية واستخبارية احترافية ثم الانسحاب بسهولة لم يفهمها المواطنون التوانسة لأن الحادثة وقعت يوم الخميس الماضي في منطقة جبل الشعانبي وفي هنشير التلة بالذات وهو قلب الجبل بعد أن أعلنت منطقة عسكرية مغلقة تحيط بها أليات جيشنا من الشرق وأليات الجيش الجزائري من الغرب وتحوم في فضائها مروحيات عسكرية وطائرات مقاتلة! بل إن القصف الذي نفذته وحدات الجيش التونسي وتسبب في إحراق آلاف الهكتارات من الجبل كان عامل استعادة جزء من ثقة المواطن في حزم جيشه الوطني واطمأن المتساكنون هناك إلى أن الوضع تحت السيطرة وأن أحداث رمضان الماضي (ذبح تسعة من جنودنا ساعة إفطارهم) أصبحت ذكريات أليمة واعتبرت بها الدولة ولن تسمح بتكرارها!
ولكن هيهات هيهات أن يفرح التوانسة بالشهر الفضيل هذا العام فإذا بنا نفيق من الطمأنينة على فرقعات الأر بي جي والكلاشنكوف والرمان المتفجر تحرق زينة شبابنا من جنود وضباط في عملية لم نكن نتوقعها ولم تخطر على البال وهو ما أطلق الألسن بالنقد والتبرم وأحيانا اليأس والإحباط من التعاطي الرسمي مع الأحداث وقد كنا من بين من اقترح منذ ثلاثة أعوام بعث وزارة للأمن والأمان منفصلة عن وزارة الداخلية لتكون الجهاز المتخصص والاحترافي والبعيد عن التجاذبات السياسية وذهبت للسيد الباجي قايد السبسي حينما كان رئيسا للحكومة فاستقبلني مشكورا في قصر القصبة لأقول له أمرين الأول هو نصيحتي بإفراد الأمن بوزارة والثاني هو تقريب الشقة بينه وبين الشيخ راشد الغنوشي بعد تصريحات الرجلين حول ما يسمى بواقعة الأرشيف وذلك إيمانا مني بأن تقارب الشيخين مفيد لفك الاشتباك وتيسير الشروع في الحوار الوطني ثم الوفاق الوطني وبالفعل سمع رئيس الحكومة نصيحتي واستقبل في يوم الغد الشيخ راشد لكنه لم يسمع نصيحتي في بعث وزارة للأمن واستمرت الداخلية في شكلها المضخم المعقد تتعرض للهشاشة وضياع الخطط الناجعة في كل العهود وبخاصة حين قرر أحد الوزراء العابرين حل جهاز المخابرات وتسريح خبرائه وموظفيه في عملية ديماغوجية عوض تصحيح مساره وإعادة تشكيله على مبادئ الجمهورية واليوم يطالب رجال مجربون بنفس اقتراحي وأبرزهم الصديق الطاهر بلخوجة وزير الداخلية الأسبق والسيد رفيق الشلي مدير الأمن الأسبق. فأثناء تشكيل حكومة المهدي جمعة تمت الاستجابة لهذا الاقتراح ولكن بارتكاب خطأ لوجستي وإداري لأنه تم تعيين السيد رضا صفر وزيرا مكلفا بالملف الأمني راجع بالنظر التراتبي إلى لطفي بن جدو وزير الداخلية وبهذا الإجراء حسب السيدين طاهر بلخوجة ورفيق الشلي وقع حرمان وزارة الأمن من سرعة و مرونة ونجاعة قراراتها ومبادراتها بمجرد الرجوع إلى وزير الداخلية في كل ما يعتزم رضا صفر القيام به. ونحن نقول أن حسن النية متوفر في تلك الخيارات بلا شك لكن مصلحة البلاد وأمنها يستحقان إعادة النظر في تراتبية تنظيم جهاز الأمن ومشمولات وزارة الداخلية وكنا ننتظر من رئيس الحكومة ليلة مداخلته الاستعجالية على الفضائيات قرارات على هذا المستوى لتصحيح الأخطاء ومراجعة سوء التقدير والأمل معقود على حوار وطني شامل حول الإرهاب يكون هو المؤسس لسياسات توافقية لا تقتصر على الحل الأمني بل تتغلغل في جذور الإرهاب بدءا من التعليم والتربية والثقافة وقوانين تنظيم المجتمع ورسالة الأسرة التونسية في بناء الإنسان أي إن بلادنا في أمس الحاجة إلى ثورة حضارية أخلاقية شاملة لتكون الحلول جوهرية تعالج أصل الداء ولا تكتفي بتخفيض حرارة المريض. ولاحظوا معي خروج رهطين مشبوهين من أرهاط ما بعد الثورة في شكل المعلقين على أحداث هنشير التلة: الرهط الأول الذين استغلوا هذا الإرهاب ليعلنوا عداءهم لا للإرهاب فنحن ضده جميعا بل للإسلام وقيمه وفضائله وشرائعه وهم يخططون لا لضرب العنف والقتل بل لضرب انتماء بلادنا لدينها الحنيف أولئك الذين يبشرون بأن تونس ستصبح (دعارستان) لا دين فيها ولا أخلاق أما الرهط الثاني فمشكل من بقايا أنصار دولة البوليس من الفاشيين الذين ينادون بعودة العصا والفلقة والقتل تحت التعذيب بحجة مقاومة الإرهاب بينما هم الإرهابيون الذين كانوا أول من أراق دماء الوطنيين الأبرياء واغتصبوا الحرائر أمام أزواجهن في سراديب الداخلية ونحن نقول لدعاة الإرهاب وأنصار الدعارة والذين يهزهم الحنين للفاشية الرهيبة نحن نقول لهؤلاء المنبتين إن تونس ستظل تونس المسلمة الأمنة لن تكون لا إرهابستان ولا دعارستان ولا فاشستان.