ضمائر الموتى في فلسفة الحياة والموت حية في حقيقتها الغائبة على الواقع شكلا، الحاضرة في مضمون الفعل ومجريات التأريخ وأحداث الذكريات، بما أطرته من معالم للحياة وما أنتجته من رصيد فكري، وما احتضنته من انجاز لن يأفل بريقه أو يخفت أثره، جسرا للمعرفة الإنسانية الراقية، ونماذج حضارية تسطّر للتاريخ مشاهد واقعية وحقائق ملموسة في عالم متعطش لوجود المخلصين العاملين، إنهم أحياء بما أوجدوه من مساحات التغيير في عالمهم الكوني نقلا للإنسان إلى مراتب القوة والنهضة والرقي الفكري والروحي، إنهم أمة في منهج الحق الذي اتبعوه ،وسلوك الصواب الذي أوصلوه لهم ولغيرهم، في رصانة المنهج وسلامة الفكر ونبل الهدف وسمو التضحية وعظم الوفاء للأوطان ، والنهوض بالإنسان وسعيهم لحضوره في كل محطات التحول التي تعيشها الإنسانية في مختلف العصور، فأسسوا الوحدة وأنتجوا العدل وأصّلوا قيم الحضارة.
ومع أنهم أموات غائبون عن أعيننا، إلا أن انتاجهم الإنساني الراقي وعظيم صنعهم جعلهم قدوات لبلوغ الحق، أنقياء السيرة، أصفياء السريرة، حاضرين بفقه ما سطروه من أجل الإنسان وحضارته الباعثة إلى التجديد، وما مالك بن فهم والملكة شمساء، والذين جاءوا من بعدهم بإحسان كالمهلب بن أبي صفرة والربيع بن حبيب والخليل بن أحمد وجابر بن زيد وأحمد بن ماجد وأحمد بن النعمان ومازن بن غضوبة وابن المبرد وابن دريد وغيرهم كثير، عمانيون أجلاء، مخلصون أوفياء ، صامدون من أجل الحقيقة، باعثون للأمل، أحياء الضمائر، نور الحياة وجمالها، وصفاء الكون ونقاؤه، ومجده وشموخه، وقبلته ومراجعه، شهدالتأريخ بفضلهم وتحدثت المراجع عن أثرهم، قادة سياسيون مصلحون وعلماء ربانيون مؤثرون.
لقد مرت حقب التأريخ ولم يختلف على موطنهم اثنان، وكان حديث الناس والعالم فيهم يرتكز على الاحتفاء بما خلدوه من حضارة ورسموه من مجد للإنسان وأنتجوه من فكر، فكانت سيرتهم الحسنة ومنهجهم الواعي ملامح نور تهدي السبيل وتبهج الخاطر، فأضاءت بذكرهم الحياة وقويت لنهجهم العزائم وأدرك العالم أجمع بأن عًمان التي أنجبت مثل هؤلاء الأخيار حق لها أن تنال طيب المدح النبوي العاطر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم حين قال: " لو أن أهل عمان أتيتي ما سبوك وما ضربوك"، فقد أنجبتهم الأرض العمانية وغذت ضمائرهم بخلقها واعتدالها وسموقها، وأرضعتهم فكر الحياة الناصع ومنهج الإنسانية القويم، وهكذا ارتبطت عمان بهم في كل محفل وارتسمت في فكرهم وسلوكهم حتى في قيادتهم للعمل الإنسان ، لما التزموه من نهج التسامح والروح الانسانية العالية في قبول الاختلاف والاعتراف بالآخر واحترامه وتقدير الفكر الإنساني، حيث تجلت أخلاق العمانيين في كل مراحل التأريخ البشري، فكانوا خير قادة للإنسانية في مختلف ظروفها القاهرة وأحداثها الهائجة، والتي بقي العمانيون فيها على أصل فطرتم أنقياء السيرة أصفياء السريرة، حتى انتشر بهم الخير وارتقى فيهم الخلق ونزلت القيم والأخلاق بهم في أساليب العمل التعامل والإدارة في كل أرض وطأتها أقدام العمانيين.
لقد استغل موتى الضمائر ميزة التقنية في عالمنا المعاصر في تشويه الحضارة الإنسانية بأفكار عدائية وتوجهات فكرية متطرفة تتنكر لماضي الشعوب وتسعى للسيطرة على ثرواتها الفكرية أو تغيير ملامحها بطريقة الاعتداء على الثقافة والفكر وتراث الأجداد ورموز الاوطان ، يعتدون على الموتى الذين هم أحياء الضمائر عند ربهم يرزقون، ولأنهم يمتلكون المال بات سهلا عليهم صنع الألقاب والدخول في عمليات المسخ، في سبيل زعزعة الاستقرار وتوفير مساحة من التهور وتأجيج الناس على قضايا الأموات بنسبتهم إلى كيانهم لإثارة النزعة الذاتية والحمية التي تُبقي قضايا الخلاف مفتوحة، وجيشوا من أجل تصويب فكرتهم ضعاف النفوس من الكتاب والباحثين والاعلاميين والصحفيين والسياسيين والمغردين في شبكات التواصل الاجتماعي، الذين يقرأون الحياة في فلسفة البراجماتية والمصالح الشخصية والكسب المادي، ساعين نحو تغيير الحقيقة وانتزاع الحق من اصحابه، وإيهام الناس بمغالطات فندها التاريخ وبينتها المراجع والمصادر وأمهات الكتب وأصلها العلماء الحكماء ومن تبعهم بإحسان، لتقف نفوسهم عاجزة عن مواجهة الحقيقة التاريخية، عندها لم يجدوا من طريق إلا بإثارة كل موجات التزوير والسرقة ونسبة التأريخ إليهم، يحاولون أن يبحثوا لهم عن موطن قدم في تاريخ لم يكن لهم فيه أي حضور، يسرقون في وضح النهار تاريخ أمة ومنهج حضارة ونماذج التاريخ ورموزه، ومفردات ثقافة الإنسان العماني الذي شكّل تراثه الحضاري وثروته التاريخية والثقافية محطات عطاء خالدة، أوجدت للعمانيين خصوصيتهم وتفردهم، وساهمت في جعل هذا الموروث حياة متجددة محفوفة بالأمن والاستقرار والفضيلة والقيم نقلها العمانيون في رحلاتهم التجارية وموانئهم البحرية ومناطقهم التي أقاموها في هذا العالم.
ومع التأكيد على أن الحضارة الإنسانية الواعية هي التي تأخذ بأسباب الاختلاف لتقوية رابط التكامل وصنع محطات التقاء، والبناء على مسارات التميز التي أنتجها السلف الصالح وأسسها رجالات عظام ساروا بالأمة خير طريق، فإن على الحكماء من هذه الامة ومن يحملون على عاتقهم تسجيل تاريخها وتحقيق مناهجها وتأطير منهجياتها أن يكونوا سندا للحقيقة ، داعمين للحق، مناضلين من أجل المبدأ، عالمين بفضل نسبة الحقائق إلى أصحابها والتأريخ إلى عظمائه، فإن عليهم في الوقت نفسه تصحيح اللغط الحاصل، وحالة العدائية والتشويه لصورة التأريخ بشكل يزيد من مستوى الخلاف السلبي بين أبنائها، وتضييع المشتركات بينها.
إننا في عمان نؤكد على أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأن التأريخ العماني ليس حكرا على العمانيين والانتفاع به ليس محصورا في عمان، وان الامبراطوريات العمانية في فترات سابقة شكلت جسر اتصال وتواصل في نشر الثقافة العمانية الاصيلة لبقاع العالم المختلفة، ولكننا ندرك في الوقت نفسه بأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال التعدي على مسلمات التاريخ وحقائقه، فإن لسلفنا الصالح في نفوس أبناء هذا الوطن، قدرا غير منقوص ومنزلة عالية ونهجا نفخر به ونفاخر فيه، ويبقى على الجميع أن يعي ذلك ويدرك حقيقة التأريخ العماني القائم على العمق والأصالة والمصداقية والثبات في المبدأ وحضور الإنسان في كل مفرداته ومنصاته.
ويأتي على المؤسسات الدولية والإقليمية كاليونسكو المعنية بالتراث العالمي الإنساني المادي والمعنوي والمفردات التراثية والرموز الحضارية، تبصير العالم بهذا التأريخ الحضاري لعمان ودورها في ريادة العالم واستمرار هذا الدور اليوم في السياسة الحكيمة التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم، الراعية للسلام والوئام والتسامح والتعاون، مستمدة من نهج الإسلام العظيم وتأريخ عمان النابض بالحياة مسار تقدمها وتطورها، فليحتفي العالم أجمع بهذه الرموز الوطنية العمانية العالمية وليخلد ذكراهم في مؤتمرات وندوات ولقاءات واصدارات، وليبرز صنيعهم في إنشاء مراكز ثقافية بالجامعات والمؤسسات العالمية بأسمائهم، ولكن أن تزّيف نسبتهم إلى موطنهم الأصلي ومنشأهم الأساسي والوطن الذي عاشوا في كنفه واستظلوا بظلاله فهذا مما لا يُقبل فعله .. فهل سيدرك موتى الضمائر هذه الحقيقة ويوقفون اعتداءهم على أحياء الضمائر أموات المشهد ؟ هذا ما نأمله.

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]