باختصار : 25550 سنة عمر النكبة
وحده الفلسطيني من يغرف من الزمن كل هذه الارقام التي تمر على نفسه واحساسه وبعاده .. هو في كل 15 مايو من كل عام طريد في أصقاع الارض او محاصر في داخل بلاده لايعلم متى يقوم الجلاد بطرده من ارضه المستولي عليها.
اعظم مافي قصة النكبة تلك، ان الاجيال الفلسطينية الجديدة، اكثر شراسة من الاهل والاجداد في الارتباط بالارض، وهي ايضا اكرم منها في البذل والعطاء. تصوروا ابن غزة الذي يذهب الى تخوم مساحة الارض التي يقطن عليها ليبدأ على حد تعبيره عملية العودة عبر تنشق رائحة كل فلسطين .. في هذه الحالة تسبقه روح الاباء والاجداد لتغذي فيه الصور التي لم يعرفها عن بلاده سوى ان ارثا يحركه، ومن خلاله يتطلع الى فلسطين كمعشوقة لها شرف الحكم الذي تريده عليه.
في 15 من الشهر الحالي يكون عمر النكبة خارج حسابات محمود درويش سبعين سنة .. مااصعبها من سنوات متكررة والجوع الفلسطيني الى بلاده يزداد. اذن هي في حسابات الزمن ماقاله الشاعر درويش واكثر . بل هي في عمر الاجيال احساس مركب بآلاف السنين يطن في الاجساد ويقوى من جيل الى آخر.
كم كتاب يحمل عنوان ” عاشق من فلسطين ” او ” عاشق فلسطين ” .. قدر لي ان استمع ذات يوم ولاسباب انتاجية تلفزيونية لبعض المرويات الفلسطينية مما تبقى من كبار السن الفلسطينيين الذين عاشوا تفاصيل النكبة والتي وصفها الشاعر العراقي يومها بأدق الوصف بقوله ” أرأيت قافلة الضياع / اما رأيت النازحين / الحاملين على الكواهل من متاهات السنين / آثام كل الخاطئين”.
كانوا يتحدثون كما لو انهم لم ينسوا تفصيلا .. المرارة الشديدة تظل ذاكرة مفتوحة لايمكن نسيانها. جميعهم تقريبا تشابهت رحلة عذابهم .. احد اصدقائي الصحافيين الفسطينيين اخبرني كيف مشى اهله وهو لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره عشرات الكيلومترات ليصلوا الى قرية في جنوب لبنان، اقاموا اولا في ساحتها حيث ناموا على التراب بعد ان تطوع اهلها لنجدتهم ببعض الغطاء، وكانت القرية آنذاك ككل القرى اللبنانية الجنوبية نموذجا للفقر المدقع .. بل ان احد قادة المقاومة الفلسطينية اخبرني، ان اهله اثناء هروبهم الطويل تعبوا فحطوا رحالهم في مكان على الحدود مع لبنان قرب بئر ماء .. وفي الصباح افتقدوا اختهم التي كان عمرها في ذاك الوقت اقل من سنيتن، فاكتشفوا انها رمت نفسها في البئر دون ان تدري .. كما اخبرني ان كثيرات من النسوة حملن مخدات البيت على اساس انها اولادها ولم يكتشفن ذلك الا بعد مسافة طويلة من الجري، ولعل قصة غسان كنفاني” عائد الى حيفا ” خير دليل على المصاب الفلسطيني، ليس فقط في خسارة وطنه ، بل في الشقاء الذي نتج ايضا.
اوصى الزعيم اليوغوسلافي الراحل تيتو بعض قادة فلسطين عدم الاعتراف بإسرائيل مهما كانت الأسباب ، لكنهم اعترفوا بها .. واوصى العرب في احد خطاباته لهم الوصية ذاتها، لكن الايدي تمتد اليها، كانت تحت الطاولة، لكنها صارت اليوم فوقها وفي العلن وتحت الشمس ودون خجل.