عمل الخير موصول لا ينقطع، وإنما مستمر باستمرار الحياة، ويأخذ هذا الخير حيزه وثوابه ومكانته وعمقه لدى المسلم، فهو يرى فيه سبيلًا إلى التقرب إلى الله وبلوغ درجة الرضا الربانية، وما يترتب عليه من درجات وحسنات وتوفيق وعناية، فأعمال البر والخير تردف إتيان الفرائض والسنن والنوافل، وجعلها الله ميدانًا واسعًا للتنافس فيه بين الناس، وطريقًا نحو الفوز بالحظوة الإلهية، وفيها تعبير واضح عن حب المؤمن لله ليبلغ تلك العظيمة التي وصفها الله في الحديث الذي رواه النبي صلى الله وعليه وسلم عن ربه "لايَزَالُ عَبْدِيي َتَقَرَّبُإِ لَيَّ بِالنَّوَافِل ِحَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِر ُبِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ..".
إن مظاهر الخير والبر واسعة، وأبوابها مفتوحة، ومن يسعَ في سبيلهما يُعِنْهُ الله ويكتب له التوفيق، كما أن مظاهر التكريم والإنعام من المولى سبحانه وتعالى على عباده الذين يعيشون اليوم بين فرحة ومنحة؛ فرحة بأن مَنَّ الله عليهم ببلوغ شهر رمضان المبارك الذين بدأوا اليوم بصيام أول أيامه، ومنحة تتمثل في تلك الفيوض والفضائل والحسنات والثواب التي ضاعفها الله في هذا الشهر العظيم، فقد هيأ الله الظروف والأجواء لعباده ليتنافسوا في اغتنام الشهر وفضائله والفوز بالدرجات والحسنات، وبالرحمة والتوبة والغفران والقبول والرضوان، وذلك بفتح أبواب السماء وأبواب الجنة، وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، فقد جاء في حديث رسول الله صلى الله وعليه وسلم "هذا شهر رمضان جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين". أي أن الله قد سخر أمام الصائم كل العوامل التي تعينه على أداء فريضة الصوم كما يجب، وليس من شيء أقوى تأثيرًا على حرف الناس وإشغالهم عن عبادة ربهم من الشياطين ووساوسهم.
لقد فضل الله شهر رمضان المبارك على سائر أشهر السنة، وخص سبحانه وتعالى ذاته العلية بفريضة الصوم، فكما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه المصطفى عليه الصلاة والسلام "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به..." لأن الصوم عبادة سرية لا يعلمها إلا الله ولا يعلم صدق صيام العبد إلا هو سبحانه، وبالتالي لا يقع فيه الرياء، ومن دلائل التكريم والتعظيم لهذا الشهر أيضًا بأن أنزل الله تعالى القرآن فيه، حيث قال عزَّ من قائل "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِل َفِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..."، وكذلك من دلائل التكريم والتعظيم ومكافأة الصائم على إخلاصه وتقواه واجتهاده في أداء الفرائض والطاعات، توفيقه سبحانه لعباده الصائمين لقيام ليلة القدر التي خص الله بها هذا الشهر فقال عزَّ قائلًا عليمًا "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَاأَدْرَاكَ مَالَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَة ُوَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ". كما أن هناك أمورًا تتنافى مع فريضة الصيام كالحسد والعداوة البغضاء والكراهية وقطيعة الرحم والفرقة والتشاحن والنفور من الآخرين وتحقيرهم والحط من شأنهم، وكل ما حاك في الصدر من مساوئ وخوارم المروءة.
وعلى الرغم مما جمعه الله من خير وفضل عظيم وأجر مقيم، ومنافع أولها التقوى، فإنه مما يؤسف له أن يحل رمضان هذا العام والأمتان العربية والإسلامية في وضع يتنافى مع فريضة الصيام وحرمته، فمظاهر القتل والإرهاب والخيانة والعداوة والبغضاء والتنابز والشحناء، والفرقة ونسج الأباطيل والارتماء في عباءة أعداء الإسلام والمسلمين، هي مظاهر لا تزال حاكمة ومستحكمة ودافعة إلى مزيد من الشرور والآثام والإجرام بحق المسلمين، فحري بمن ساقتهم أهواؤهم، وقادتهم قلوبهم المريضة، إلى انتهاج سياسات وأعمال لا تستقيم مع فطرة الله وفطرة الإسلام، ولا تستقيم مع الإنسانية وحرمة الدم والدين والأخلاق والأموال والأعراض، وحرمة القذف والسب والابتذال وغير ذلك من الأمور التي تغضب الله سبحانه وتعالى، وتلغي ما أودعه الله من صفات خيرية في هذه الأمة، أمة الإسلام، فحري بهم أن يراجعوا أنفسهم ويتعظوا ويتخذوا من فريضة الصيام مناسبة للعودة والتكفير عن الخطايا والذنوب، ويتقوا الله في أنفسهم وفي من هم مسؤولون عنهم.
وفي الختام، نتقدم إلى باني نهضة عمان حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بالتهنئة القلبية بحلول شهر رمضان المبارك، داعين الله تعالى أن يعيد هذه المناسبة وأمثالها على جلالته بالصحة والسعادة والعمرالمديد، وعلى الشعب العماني وشعوب الأمتين العربية والإسلامية بكل خير ومنعة ورفعة.