منذ أيام قلائل معدودة كنا نستعد لاستقبال شهر رمضان المبارك، فرحنا بقدومه، وسررنا بمجيئه، فقد حل علينا ضيفًا كريمًا عزيزًا حبيبًا خفيفًا مباركًا.
حلَّ علينا بنفحاته، وخيراته، وبركاته، وإشراقاته، وتجلياته، وفيوضاته الربانية؛ أنار بيوتنا، طهر نفوسنا؛ عمرت فيه بيوت الله تعالى بالصلاة، والقرآن، والذكر، والدعاء، والعلم، ومليئت فيه المساجد بالمصلين والذاكرين، والمتعلمين والمعتكفين، تلي فيه القرآن الكريم، وقويت فيه الصلة بالواحد الديان، وازداد فيه الإيمان، ولانت فيه الطباع، ورقت فيه القلوب، وزكت فيه الفضائل، وتهذبت فيه الأخلاق، وسمت فيه الأرواح، وفاضت فيه الرحمات، وجادت فيه النفوس بالعطايا والنفقات. إنه شهر أول رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. إنه شهر التراحم والتلاحم، إنه شهر التعاون والتعارف، إنه شهر المحبة والمودة، إنه شهر الصفاء والإخاء. إنه شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه المردة، وتغل فيه الشياطين، إنه سوق من أسواق الآخرة، إنه موسم من مواسم الزرع الوفير، والتجارة الرابحة، إنه ميدان للتنافس، ومضمار للتسابق، شمر فيه المجتهدون الموفقون، وتنافس فيه المجدون الصادقون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل رمضان نادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر اقصر ".
كُنّا بالأمس القريب نستقبل شهر رمضان المبارك، فهل علينا هلاله، وبزغ علينا فجره، وطلعت علينا شمسه، فتوالت أيامه العطرة، ولياليه الزاهرة، تحدث عنه المتحدثون، وكتب عنه الكاتبون، من علماء، ودعاة، وفقهاء، ومفكرين، ومفتين، ووعاظ، ومرشدين، وأئمة مساجد، وخطباء منابر؛ تحدثوا عن فضائل شهر رمضان المبارك وخصائصه، ونفحاته، وإشراقاته، وتكلموا عن فرضية الصيام وأهميته، وثوابه، وأجره، ومنافعه، وثمراته، وفوائده الروحية، والصحية، والأسرية، والاجتماعية، والاقتصادية، تحدثوا عن معنى الصوم لغة وشرعًا، وذكروا أدلة مشروعيته، وبينوا شروط وجوبه، وفرائضه وسننه، ومفسداته ومكروهاته إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية، والتوجيهات السديدة المتعلقة بالصيام؛ كل ذلك شحذًا للهمم، وحفزًا للعزائم، واستغلالًا للطاقات ليؤدي المسلمون هذه العبادة العظيمة، على الوجه الشرعي الذي يرضي الله عزَّ وجلَّ، وهم يدعون ربهم تبارك وتعالى: اللهم سلمنا لرمضان، وسلم رمضان لنا، وتسلمه منا متقبلًا.
ها هو ينقضى الشهر، وتطوى صفحته، فنودعه وكلنا نطمع في الأجر والثواب، والفوز بالجنة والعتق من النار، ودعناه وكلنا نأمل القبول من الله تعالى، ودعناه وكلنا نرجو ربح التجارة، وحصاد الزرع، وجني الثمرة، يقول الله تعالى في الحدبث القدسي على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه بصومه"، ويقول عليه الصلاة والسلام: " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولو تعلمون ما في رمضان من فضل لتمنيتم أن يكون سنة".
يمضى رمضان، ولا ندري هل سنلاقيه، أما أننا سنكون في التراب بين أطباق الثرى. يمضى رمضان والسؤال المطروح: ماذا بعد رمضان؟.
مما يؤسف عليه أن الكثير من المصلين إذا خرج الشهر الفضيل ودعوا المساجد، فقل فيها الراكع والساجد، وهجروا القرآن، وتخلفوا عن مجالس الذكر وحلقات العلم، وفترت هممهم عن العبادة، ووهنت عزائمهم عن الطاعة، وضعفت فيهم روح التنافس على الخير، وخمدت فيبهم همة التسابق إلى الفضل. وكأنهم يعبدون رمضان، وهذه غفلة عظيمة، وجهل مركب؛ فإذا كان رمضان الزمان الليل والنهار قد مضى وانقضى، فإن رب رمضان وهو الله تعالى حي دائم يعبد في كل وقت وحين، وإذا كان شهر الصيام قد انتهى ورحل، فإن آثار الصوم ستبقى في النفوس أداة خير، ومولد طاقة، ومحرك طاعة، ومنتج فضيلة، ودافع عطاء وانتاج، ستظل آثاره طاعة تدفع إلى طاعة، وصبرًا يقود إلى صير، ونصرًا يؤدي إلى نصر، ونورًا يصل إلى نور، وخيرًا يعين على خير، وفضيلة ترشد إلى فضيلة.
فالحذر الحذر من أن نعود بعد رمضان القهقرى، فنكون - والعياذ بالله – كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، بل علينا أن نظل على الطاعة، ونثبت على العبادة، ونحافظ على الاستقامة، ونستمر على عمل الخير، ونداوم على المعروف، ونبقى على العهد مع الله تعالى من حيث امتثال أوامره واجتناب نواهيه، علينا أن نحافظ صلاة الجماعة، ونواظب على حضور حلقات العلم ومجالس الذكر، وأن نحرص على تلاوة القرآن الكريم، وعلى ملازمة العلماء وأهل الفضل، وعلى مصاحبة الأخيار والصلحاء، وعلى المبادرة الفاعلة للإسهام الإيجابي في المجتمع، والمشاركة البناءة المثمرة في كل ما يعود بالنفع المنشود للأمة، والفائدة العامة المرجوة، فما أكثر أبواب الخير، وميادين البر، ومجالات المعروف، فما علينا إلا أن نجد ونجتهد، ونسعى ونعمل، ونثابر وننافس، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، والجزاء من جنس العمل.
وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول في محكم التنزيل: { من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} سورة فصلت الآية"46".

د/ يوسف بن إبراهيم السحرني