{فـلما رأوه عـارضـا مـسـتـقـبـل أوديتهـم ، قالـوا هـذا عـارض ممـطـرنا .. }
فـفي هـذا المـوقـف يشـير الله تعالى ويـذكـر الكـفـرة، إلى ما قاله قـوم عـاد لما جـاءهـم العـذاب ، فـمنـطـقهـم واحـد لا يخـتـلـف ، قال تعالى:{فـلما رأوه عـارضـا مـسـتـقـبـل أوديتهـم ، قالـوا هـذا عـارض ممـطـرنا ، بـل هـو ما اسـتعـجـلـتم به ريـح فـيها عـذاب أليـم} سـورة الأحـقاف 24، لما رأوا السـحـاب مـعـترضا أوديتهـم، أي فـوق رؤوس أوديتهـم فاسـتبشـروا خـيرا وقـالـوا : هـذا العـارض هـو الـذي سـيمـطـرنا وتـسـيـل به أوديــنا.
فانتـظـر قـوم عـاد نـزول الأمـطـار وسـيـلان الأوديـة، ولا نـدري كـم دامـت مـدة انتـظارهـم فإذا بالسـحـاب الـذي ظـنـوه عـارضا ممطـرهـم ، يتحـول إلى ريح صـرصـر عـاتـية، كـما قال الله تعالى : { ريح فـيها عـذاب ألـيـم تـدمـر كل شـيء بأمـر ربها فاصـبحـوا لا يـرى إلا مـسـاكـنهـم ، كـذلك نجـزي القـوم الـمـجـرمـين } سـورة الأحـقاف 24/25، وقال تعالى : { وأما عاد فأهـلـكـوا بـريح صـرصـر عـاتـية ، سـخـرهـا عـليهـم سـبـع لـيال وثـمانـية أيام حـسوما ، فــترى الـقـوم فـيها صـرعـا كأنهـم أعـجـاز نخـل خـاوية ، فهـل تـرى لـهـم مـن باقـية } سـورة الحاقـة 6/8 ، فـهـدمـت تلك الـريح الأبـنية واقـتـلـعـت الأشـجـار وأهـلكــت الحـرث والنـسـل، فـصاروا عـبرة لمـن يـعـتبر.
فجـهـلهـم للـغـيب جهـل مـطـلـق ، لا يـعـلمـون منه شـيئا أبـدا حـتى إلى اللحـظـة التي لـم يـبـق بينـهـم وبـين نـزول العـذاب إلا لحـظات ، وربـما إلا ثـوان معـدودات ، ومـع ذلك كانـوا يـقـولـون : { سـحـاب مـركـوم } فأين عـلمـكـم يا هـؤلاء، أيبلـغ بـكـم الجهـل إلى هـذا الحـد ؟ أيصـل إليـكـم العـذاب وتـرونـه راي العـين وتـقـولـون فـيه : { هـذا عـارض ممـطـرنا } فأي عـقـل عـنـد هـؤلاء ؟ ، وكـذلك حـال الـذين يـقـولـون في الرسـول صلى الله عـليه وسـلم : { شـاعـر نـتربص به ريـب المـنـون } ، فإن هـم إلا يخـرصون ، وإن هـم إلا يـظـنـون ، وإذا كان هـذا مـبـلغ عـلمهـم بما هـو أقـرب إلـيهـم مـن فـواق ناقـة ، فـما بالهم بما هـو أبـعـد مـن هـذا وأعـمـق في الغـيب ، مما كان قـبـل أو مما سـيحـدث بعـد ذلك ؟.
بهـذا يتـبين لنا مـقـدار أقـوالهـم وأحـكامهـم ، فهـي كلها عـلى هـذا النحـو، إنه لا عـلم لهـم بشيء مـن ذلك، وإذا كانـوا يـقـولـون في النبي صلى الله عـليه وسـلم : { أم يقـولـون تـقـولـه بـل لا يـؤمـنـون } الطـور 33 ، فإنهـم هـم الـذين يـتـقـولـون في النبي صلى الله عـليه وسـلم عـلى الله ما لا يعـلـمـون .
كـذلك قال الله تعالى في شـأن قـريـش المـكـذبين : { وإن يـروا كـسفـا مـن السماء ساقـطا يـقـولـوا سـحـاب مـركـوم }، قال هـذا تهـكـمـا بهـم وتعـريضا لهـم بأنهـم لا يـعـلـمـون الغـيـب ، وهـذه نـكـتة مهـمة يجـب عـلينا أن نفهـمها وأن لا تخـفى عـلى كـل ذي عـقـل.
بـعـد هـذا يـلتـفـت الله تعالى بالخـطاب إلى النبي صـلى الله عـليه وسـلم ، فـيقـول له : { فـذرهـم حـتى يـلاقـوا يـومـهـم الــذي فـيه يـصـعـقـون } سـورة الطـور45 ، دعـهـم ولا تكـترث بما يـقـولـون ، ولا بما يـفعـلـون، ولا بـما يمـكـرون ، يعـني قـوله : { فـذرهـم } ولـكـن عـظهـم وأنـذرهـم ، لأنـه قـد قال لـه قـبـل ذلك : { فــذكـر فـما أنـت بنـعـمة ربـك بـكاهـن ولا مـجـنـون } ، إذن : قـوله تعالى : { فـذرهـم } ، يعـني واصـل تـبلـيغ رسـالة ربـك وادع إلـيها ولا تهـتم لشأنهـم حـتى يأتيـك اليـقـين ، فأنـت عـليـك البـلاغ فـقـط .
وكأنه قال له : انتظـرهـم حـتى يـلاقـوا يـومهـم الـذي فـيه يـصعـقـون ، إن لهـم يـوما خصه الله تعالى لـعـذابهم في الـدنيا ، أفـرادا وجـماعـات ، أفـرادا كما وقـع للـمـستهـزئـين الـذين بـلـغـوا النهاية في المـكـر والاسـتهـزاء ، فـخـصهـم الله تعالى بالـذكـر في قـوله :{ إنا كـفـيناك المستهـزئين } سـورة الحجـر 95، فأنـزل الله عـلى كل واحـد نـوعا مـن العـذاب الألـيـم قـضى عـليه، وجـماعـات كـما كان يـوم بـدر الـذي قـتـل فـيه سـبـعـون مـن صناديـد هـم، وأسـر منهـم سـبـعـون ، ولـعـذاب الآخـرة أشـد وأخـزى وأعـظـم، ولا محـالة هـو مـلاقـيهـم ، هـم سـائـرون إلـيه ، وكل واحـد منـهـم سـيلـقى مـصيره المحـتـوم .
المستهـزئـون الكـبار خـمـسة وهـم : الأسـود بن المطـلـب مـن بني أسـد، الأسـود بن عـبـد يـغـوث مـن بني زهـرة ، الـولـيـد بن المغـيرة مـن بني مخـزوم ، العـاص بن وائـل مـن سـهـم ، الحـارث بن الطـلاطـلة مـن خـزاعـة ـ ( المصـدر : سـيرة ابن هـشام جـ1 ص 4.9 ) .
وعـن عـروة بن الـزبيـر بن العـوام ، أن جـبريـل عـليه السـلام أتى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم وهـم يـطـوفـون بالـبيـت فـقام جـبريـل، وقام رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم إلى جـنبـه، فـمـر به الأسـود بن المـطـلب فـرمى في وجهه بـورقـة خـضـراء فـعـمي الأسـود ، ومـر به الأسـود بن عـبـد يـغـوث فأشـار إلى بطـنـه، فاسـتسـقى بطـنه فـمات مـنه حـينا ، ومـر به الـولـيـد بن المغـيرة ، فأشـار إلى أثـر جـرح بأسـفـل كـعـب رجـلـه كان قــد أصابه قـبـل ذلك بسنـين وهـو يجـر سـبـله ، وذلك أنه مـر بـرجـل مـن بني خـزاعـة وهـو يـريـش نـبـلا له فـتعـلـق سـهـم مـن نبـله بإزار الـولـيـد بن المغـيرة فـخـدش في رجـله ذلك الخـدش ، وليـس بشيء فانـتقـض به فـقــتـله، ومـربه العاص بن وائـل السـهـمي فأشـار إلى أخـمص رجـله وخـرج عـلى حـمار له يـريـد الطـائـف فـربض به حـماره عـلى شـبا رقة فـدخـلـت في أخـمص رجـله شـوكـه فـقـتـلـته ، ومـر به الحـارث بن الطـلاطـلة فأشـار إلى رأسـه فامتخـض قـيحـا فـقــلـتـه ـ (سيرة ابن هـشام / باب المستهـزئـون بال رسـول وكـفاية الله أمـرهـم جـ 2 ص257 )
إن التعـبير بالمـلاقاة يـدل عـلى سـير مـن طـرفـين ، فهـم يـقـتـربـون مـنه وهـو يـقـترب منهـم ، فـدعهـم حـتى يـصـلـوا إلى ذلك الـيـوم وهـم لا يـفـلـتـون ، لأنهـم في قـبضـته سـبحـانه وتعالى ، فهـم وإن أطـال الله أعـمارهـم وأمـدهـم بمـال وبـين وجـنات وعـيـون ، فـهـم لا يـعـجـزونه ، قال تعالى : { أيحـسبـون أنما نـمـدهـم به مـن مال وبـنين نسـارع لهـم في الخـيرات بـل لا يشـعـرون }سـورة المـؤمنـون 56 .
فالإنسان إذا سـلك طـريـق المعاصي ، فإن الله تعالى يـفـيض عـليه النعـم والمال ، حـتى يـغـتـر ويظـن أن تلك النـعـم عــلامة عـلى رضا الله عـليه ، حـتى إنه يتـبـجـح ويـقـول : كـيـف تخـوفـونـني مـن عــذاب الله ، والخـيرات تفـيض عـلي مـن كل جـانب ، ولـكـن الله تعالى رد عـلى هـذا الظـن الخـاطيء بـقـوله : إذا كانـوا يظـنـون بأنـنا نسـارع لهـم في الخـيرات ونـوالي لهـم النـعـم ، لأننا نحـبهـم فهـم مخـطـئـون في ظـنـهـم ، إنهـم لا يعـلمـون بأننا عـنـدما نمـدهـم بـما نـدهـم به ، فإنما نملي لهـم زيادة في المـكـر بهـم ، حـتى يكـونـوا في الـدرك الأ سـفـلي مـن النار قال الله تعالى : { فـذرني ومـن يـكـذب بهـذا الحـديث ، سنسـتـدرجـهـم مـن حيـث لا يعـلمـون ، وأملي لهـم إن كـيـدي مـتين } سـورة القـلم 44/45 .
قال الله تعالى : { يـوم لا يـغـني عـنهـم كـيـدهـم شـيئا ولا هـم ينـصـرون } سـورة الطـور46، إن مـن طـبـع الكـفـرة في كل زمـان ومـكان الـكـيـد للـمـؤمنـين والـدعـاة، وقـد يبـلغـون شـيئا مـن كـيـدهـم في الـدنـيا ، ولـكـن الـكـيـد الـذي لا يـغـني عـنهـم شـيئا ، والـذي لا تجـدي فـيه حـيلـة، وهـو المـراد في الآيـة ، إنما هـو الـكـيـد الـذي يـردون به الـعـذاب الحـق الـذي تحـق به كلـمـة الله عـنـد قـيام السـاعـة ، أو الـذي يحـيـق بهـم كـما حـاق بالأمـم السابقـة
قـال الشـاعـر :
وإذا المـنـية أنشـبـت أظـفـارهـا ألـفـيت كل تمـيمـة لا تنـفـع
شـبه الشـاعـر المـوت بحـيـوان مـفــرس له أظـفـار أنشـبها في فـريـسة فـلا تسـتـطــيع أن تـتفـلـت مـنه ، كـذلـك المـوت إذا نـزل بأحـد فإنه لا ينـفـع مـعـه شيء مـن التمـائـم ، والتمـيمـة هـي العـلاج ولـرقـية .
فالله تعالى يـقـول لنـبيه صلى الله عـليه وسـلم : دع هـؤلاء وشـأنـهـم ولا تهـتـم لأمـرهـم سـيأتيهـم الـيـوم الـذي لا يسـتـطـيعـوا أن يـرد كـيـد الله إذا جـاء هـم ؟ ، قال تعالى : { أم يـريـدون كـيـدا فالـذين كـفـروا هـم المـكـيـدون } .
.. وللحـديث بقـية.

ناصر محمد الزيدي