[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” وضع العالم العربي اليوم مثل المريض في غرفة العناية الفائقة, يصحو على نزف وينام على اختلاط مرضي متفاقم , يحاول التظاهر بالصحة والعافية, لكن كل من يتواجد حوله يدرك أنه مريض. ويعرف كل من حوله أنه لا يعرف طبيعة المرض أو نوع الدواء. والجميع بين خائف وحزين ويائس. الدولة العربية هي الأضعف في محيطها. بين الجيران, الأصدقاء والأعداء, وكلّهم تقدّموا عليها في كل شيء, من الحرب إلى العلم إلى الثقافة والسياسة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما سيتناوله كاتب هذه السطور تحت عنوان مقالته أعلاه, يذكّر بالمثل العربي المعبّر "أُكلتُ يوم أكلَ الثورُ الأبيض", الذي يعكس قصة ملك الغابة مع الثيران الثلاثة: الأبيض والأحمر والأسود, فعندما كانت الثيران متفقة لم يجرأ الأسد على الاقتراب منها, لكنه تمكن منها عندما استفرد بها واحدا واحدا في ظل قبول كلّ واحد منها بافتراس الآخر. تنطبق دلالات المثل على ما يحري بين أمتنا وأعدائها! إذ يجري الاستفراد بالقضية الفلسطينية في محاولة لافتراسها من خلال تصفيتها, بينما يحاول البعض العربي من المتخلين عن عروبتهم, بل المستقيلين منها, إثبات ولائه للأعداء, حتى من خلال تبني روايتهم التضليلية وأساطيرهم الملقاة على نفايات التاريخ, ورغم ذلك يحاول هذا البعض إثباتها تزلفا للعدو الصهيوني وحليفته الاستراتيجية وقد تماهت مصالحهما وسياساتهما في زمن الانحطاط العربي, الذي لم يشهد أسوأ من هذه المرحلة على مدى التاريخين القديم والحديث.هؤلاء لا يتحسبون حتمية افتراسهم واحدا تلو الآخر, إذا ما تم افتراس قضية الفلسطينيين, ولن ينفع حينها لا ركوبهم في مركب الأعداء ولا حتى ملياراتهم!, من قبل الشايلوكيين الجدد.
للأسف, هذا حال بعض العرب, في الوقت الذي لم يكن شكسبير فيه فلسطينيا ولم يعاصر مأساة شعبنا ولا جرائم الفاشية الصهيونية بحقه على مدى يقارب القرن, رغم ذلك أبدع مسرحيته" تاجر البندقية" التي يصور فيها نفسية المرابي اليهودي "شايلوك" وإصراره على قطع رطل لحم من جسد مَدين فقير له لم يفِ بدَينه للمرابي في موعده!. كذلك كان نصيب الشاعر ت. س. إليوت عندما نشرت زوجته الثانية فاليري, مخطوطة قصيدته الأكثر ذيوعاً في الشعر الحديث "الأرض اليباب" أو بالعنوان الآخر "الخراب". لقد أحدث نشر صورة المسوّدة الأصلية للقصيدة ضجة كبيرة, وبخاصة تلك ‏التي تتصل باتهامه بالتهمة الجاهزة صهيونياً وهي"العداء للسامية" وبسبب نشر هذه القصيدة من قبل صديقه عزرا باوند, جرى اتهام الأخير أيضاً بنفس التهمة, والذي سبق له وأن خاطب اليهود قائلاً: "إن كباركم يرتبطون برأس المال ويشكلون معه شيئاً واحداً, كما يرتبط صفار البيض ببياضه, بعد خفقه في الآنية, ومن الأفضل لكم أن تعتزلوا في دير بيشاير, ومن الخير أن تعتزلوا في جنوسستر وتبحثوا عن بقعة بريطانية, وتمضوا حياتكم فيها, بدلاً من أن تذهبوا إلى الحرب من أجل وطن خاص بكم في فلسطين , وهو ليس لكم".‏
نصيب الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر كان أشد قسوة, عندما اتهمته الحركة الصهيونية "بالاصطفاف إلى جانب الرايخ الثالث" و"العداء للسامية"!, هذا رغم تأكيد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (في كتابه "هايدغر والسؤال"), أن هايدغر أدان النازية فلسفياً, وبأشكال مختلفة أخرى, خاصة من خلال تحذيره من خطر تدمير الإنسان. كما أن مشروع هايدغر, حسب دريدا, لا يتضمّن أيّ اتهام لليهودية كديانة, وهو ما أكده أيضاً الفيلسوف اليهودي الليتواني الأصل إيمانوئيل ليفيناس, الذي شكك بالتهمة.. معتبراً "أن جوهر فكر الكينونة عند هايدغر هو "تمجيد التراث اليوناني وليس مسح التراث الديني اليهودي" على حدّ تعبيره. العنوان الأساس والأبرز لفلسفة ليفيناس هو "الأخلاق كفلسفة أولى.. هذه التي تتناقض بالطبع مع "فلسفة العنف والقتل" التي تزخر بها الحركة الصهيونية وتمثيلها السياسي الإسرائيلي القائم حالياً.. هذا لكيان السوبر عنصري والنازي المطوّر والمابعد فاشي, الطافح بالابارتهايد.
كل المعنيين في بداية المقالة من الكفاءات الإنسانية.. الفلسفية والأدبية العالمية ليسوا فلسطينيين وعرباً, لكنهم اكتشفوا حقيقة الصهيونية ومشاريعها الإجرامية العدوانية, الإقصائية الاقتلاعية للشعب الأصيل من فلسطين، ومخططاتها التدميرية في العالم والشرق الأوسط وعموم المنطقة العربية. في كتاب "حتى الملائكة تسأل" للكاتب جيفري لانج, أستاذ الرياضيات الأميركي, يذكر فيه أنه سأل والده حينما كان طفلاً: يا أبت هل تؤمن بالجنة والنار؟ فأجابه: "أما الجنة فلا علم لي بها أما جهنم فقد رأيتها". وضع العالم العربي اليوم مثل المريض في عرفة العناية الفائقة, يصحو على نزف وينام على اختلاط مرضي متفاقم , يحاول التظاهر بالصحة والعافية, لكن كل من يتواجد حوله يدرك أنه مريض. ويعرف كل من حوله أنه لا يعرف طبيعة المرض أو نوع الدواء. والجميع بين خائف وحزين ويائس. الدولة العربية هي الأضعف في محيطها. بين الجيران, الأصدقاء والأعداء, وكلّهم تقدّموا عليها في كل شيء, من الحرب إلى العلم إلى الثقافة والسياسة. يستحق الزمن الحالي وصفه بعصر الانحطاط العربي بامتياز. هزائم عسكرية. تخلف علمي. تقوقع ثقافي. فشل اقتصادي. وعجز عن توتيد بنيان حكم ديموقراطي يجذّر العدالة ويُطلق الطاقات. ولأن الداء أساسه تخبط النظام القطري العربي، يجب أن يكون الدواء موجهاً إليه أولاً. فلا يمكن لنظام ديكتاتوري تعتمد ديمومته على القمع والقهر أن يكون لبنة في بنيان عربي إقليمي. الإصلاح الداخلي هو السبيل الوحيد لإصلاح قومي ينهي حال التدهور العربية ويضع الأمة على طريق استعادة حضورها وقدراتها وكرامتها.
في عصر الانحطاط العربي الراهن .. حیث تختلط المفاهیم وتهتز الثوابت وینقلب المشهد رأساً على عقب رغم بؤسه ورثاثته وعبثیته – یبدو المتخلون عن عروبتهم في نشوة رغم انهم یعیشون في فقاعة من الوهم, بأن الفرصة مواتیة لهم وان عليهم اهتبالها وعدم التفریط بالریاح التي تهب من جهة الغرب, في هذا العصر من الأسرلَة والتصهین, وهذا یؤكد ان لا تحالف او شراكة استراتیجیة للولایات المتحدة الامیركیة مع أحد في المنطقة سوى اسرائیل , رغم ذلك, يوغلون في اندفاعهم نحو تل ابیب وواشنطن, وترديد الاسطوانة الطائفیة والمذهبیة المشروخة التي یرقصون على انغامها, في مؤامرة واضحة لتغییر عناوین المرحلة وجدول أعمالها عبر الإمعان في الدعوة الى إعادة تعریف "العدو" واعتبار الهجمة الصهیونیة وكأنها هجمة ثانوية, مقارنة بما تشكله دولة مجاوِرة ومسلِمة, ذات حضور ودور ملموس في جغرافیا المنطقة وتاريخها, واعتبارها العدو الرئيسي للعرب والمسلمين!. عظمّ الله أجركم.