[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
”.. يعتمد تطوير العسكرية الأميركية تماما على أدوات القتل عن بعد، وأحدثها الدرون (الطائرات بدون طيار) القاصفة التي استخدمها الرئيس السابق أوباما بكثافة في مناطق عدة من أفغانستان إلى سوريا واليمن. ولا تتطلب الدرون حتى انتقال الجنود إلى طائرات فوق أرض المعركة أو سفن حربية قبالتها، بل يحركها جنود في مراكز التحكم بأميركا نفسها دون أن يغادروا قواعدهم العسكرية في بلدهم وهم يقصفون أي مكان في العالم.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في مثل هذه الأيام قبل عشرين عاما، أي تحديدا في شهر رمضان الفضيل عام 1998، أقنع رئيس الوزراء البريطاني وقتذاك توني بلير الرئيس الأميركي الديموقراطي حينها بل كلينتون بقصف العراق. ولم يكن هذا القصف بجديد في سياق العقوبات والقصف المستمر على العراق حتى تدميره تماما قبل الغزو الأميركي/البريطاني له في عام 2003. وأعني أنه لم يكن هناك حاجة لمبرر أو ذريعة لقصف العراق، إذ كان ذلك سهلا على التحالف الغربي/العربي وقتها. ولم يكن تردد الأميركيين لهذا القصف تحديدا مبعثه حاجتهم إلى سبب، ولا حتى لأن الإدارة ديموقراطية ومعروف أن الإدارات الأميركية الجمهورية هي الأكثر اندفاعا نحو الحرب. كان سبب التردد هو أننا في شهر رمضان "المقدس لدى المسلمين" كما يرى الأميركيون وبالتالي ربما يغضب ذلك العالم الإسلامي كله. لكن بلير، الذي غير طائفته المسيحية فيما بعد، كان يقصد بالتحديد القصف في رمضان كي يحرر التحالف ضد العراق من تلك المسألة النفسية المتعلقة بما سماه مستشاروه "التعاطف الديني". ولعل الجميع يذكر جملة بلير الشهير، التي تفاخر بها مسؤول الدعاية لديه الصحفي السابق ألستر كامبل "نحن لا نتعامل مع الله هنا".
تذكرت قصف العراق في رمضان من قبل أميركا وبريطانيا وأنا أفكر في أن الولايات المتحدة الأميركية لم تكسب حربا حقيقية في تاريخها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وأن الحربين الوحيدتين اللتين تضمنتا دخول الجيش الأميركي في حرب حقيقية مع جيش آخر منيت فيهما بهزيمة نكراء ـ حرب فيتنام (1965-1975) وغزوة خليج الخنازير (محاولة احتلال كوبا 1961). أما مشاركة أميركا في الحرب العالمية الثاني فكان في أغلبه جوا لمساعدة الحلفاء حين كاد المحور أن يكسب الحرب، أما الحروب الحقيقية فكانت من نصيب بقية الحلفاء في أوروبا وبريطانيا. وإذا استثنينا غزو غرينادا (1983) وغزو العراق بالاشتراك مع بريطانيا والحلفاء (2003) فإن أميركا لم تخض حربا إلا بالقصف من الجو أو البحر أو أراض بعيدة عن هدف المعركة. ولا يذكر للولايات المتحدة أي انجاز عسكري إلا بالقصف، وأشهره قصف هيروشيما وناجازاكي في اليابان بالقنبلة النووية للمرة الأولى والأخيرة التي يستخدم فيها السلاح النووي قبل استخدامها القصف باليورانيوم المستنفد للعراق.
ويعتمد تطوير العسكرية الأميركية تماما على أدوات القتل عن بعد، وأحدثها الدرون (الطائرات بدون طيار) القاصفة التي استخدمها الرئيس السابق أوباما بكثافة في مناطق عدة من أفغانستان إلى سوريا واليمن. ولا تتطلب الدرون حتى انتقال الجنود إلى طائرات فوق أرض المعركة أو سفن حربية قبالتها، بل يحركها جنود في مراكز التحكم بأميركا نفسها دون أن يغادروا قواعدهم العسكرية في بلدهم وهم يقصفون أي مكان في العالم. وبالنسبة للدول المطلوب القضاء عليها تماما (وتحويلها إلى ما قبل التاريخ، كما وصف العراق بعد الغزو) تفرض عقوبات صارمة تنهك ذلك البلد كما حدث مع كوريا والعراق وسوريا وغيرها، ليأتي القصف ويكمل المهمة بسهولة. إنما ما يهمنا هنا هو أن الولايات المتحدة غيرت مفهوم الحرب تماما ليناسبها وهي تريد ضرب أغلب دول العالم دون المخاطرة بالتورط المباشر (وكي تكرر الجملة الشهيرة "لا يوجد جنود على الأرض")، وهكذا تحولت إلى الولايات المتحدة القاصفة. فواشنطن، التي تعتبر نفسها منذ نهاية الحرب الباردة القوة العظمى الوحيدة في العالم، ترى مصالحها ممتدة دوما خارج حدودها وربما تشمل العالم أجمع. ومن ثم لا يمكنها استخدام جيشها لحماية تلك المصالح، فهي إذا تقصف فحسب. ولم تكن محاولاتها للحرب مع "جنود على الأرض" ناجحة، من محاولة انقاذ الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران (1980) إلى مشاركتها في الحرب الأهلية اللبنانية (1984) التي منيت فيها بهزيمة كلفتها أرواح جنودها في بيروت.
وإذا كانت "أميركا القاصفة" تحارب الآن بالدرونز التي تعتمد على برامج كمبيوتر واتصالات بالأقمار الصناعية لتسييرها على بعد آلاف الأميال وتحديد الأهداف وقصفها، فإن ذلك لا يعني أنها لا تحارب ـ لكنها لا تكسب أي حرب بالمعني التقليدي للحرب. لا شك أن هذا يتطور أيضا، مع تطور التكنولوجيا، وسيكون على بقية العالم اللحاق بالسبق الأميركي في تغير شكل الحرب من "قتال للسيطرة على الأرض"، إلى قصف لتدمير الأرض والبشر. ولن يحتاج العالم وقتا طويلا قبل أن تصبح الصناعات العسكرية متضمنة أدوات حرب المال والأعمال، إذ ستعتمد كلها على مبرمجي الكمبيوتر وقراصنته ومخترق الاتصالات ومطوريها. وإذا كان الأميركيون قد سبقوا في هذا المجال، فربما يكون من الصعب ضمان استمرار تفوقهم فالتخريب الاليكتروني أسهل كثيرا وأقل كلفة من اسلحة الحرب الأخرى. وكلما اتسع نطاق الاتصالات كلما سهل على من لا يملكون الثروة والسلطة أن يخترقوها ويخربوها ـ ويصبح الأمر كما لو أن تلك الأسلحة تطلق للخلف فتصيب صاحبها بالأذى. ومع تلك التطورات ستختلف مفاهيم الحرب أيضا من هجوم ودفاع وردع ولن يكون دور الاستراتيجيين والمخططين كما هو معروف تقليديا، وإن ظلت بالطبع القواعد الأساسية كما هي.