[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
”أبناء اليرموك يقولون أيضا: نحترق آلما على شعب ما زال سيف الظلم والتنكيل والتبشيع والشيطنة يلاحقه، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فقد ظُلم شعبنا مرارا، وكان على الدوام الضلع الضعيف في معادلة معقدة ومنحطة في الوقت نفسه، وشخصيا دفعت مرات ومرات أثمانا باهظة في موقف وطني، ومن أجل راية وطنية وقومية، وراية إنسانية قبل كل شيء.”

قبل أيام قليلة، استشهدت تحت أنقاض منزلها في مخيم اليرموك، المُسنة الفلسطينية الحاجة ذهبية فهد أبو راشد البالغة من العمر 85 عاما، استشهدت بعد أن رفضت الخروج من مخيم اليرموك، لأنها وبكل بساطة أرادت الخروج منه إلى حيفا موطنها الأصلي في فلسطين، فاستشهدت تحت أنقاض منزلها في المخيم الذي اجتاحته مجموعات وعصابات "داعش" الإرهابية.
وصلت إلى سوريا لاجئة من فلسطين عام النكبة من بلدة طيرة حيفا أو طيرة الكرمل، وكان عمرها في حينها خمسة عشر عاما، والآن بلغت من العمر عتيا، وما زالت تحكي لأحفادها قصة الوطن الفلسطيني، وقصة العودة الآتية.
رفضت المسنة الحاجة ذهبية أبو راشد الخروج من مخيم اليرموك، لإدراكها الفطري أنَّ مخيم اليرموك بالنسبة لها ليس حالة مكانية فقط، بل هو عنوان العودة إلى فلسطين، عنوان الطريق إلى يافا وحيفا وصفد وعكا وطبريا واللد والرملة، وعنوان الصراع المستمر مع المشروع الكولونيالي التوسعي الصهيوني.
استشهدت الحاجة المسنة ذهبية فهد أبو راشد، تحت أنقاض منزلها المدمر في شارع القدس بمخيم اليرموك، ودفنت تحت الأنقاض، لكن سيرتها، وقصة اليرموك لن تمحوها أزمات عابرة، حتى لو كانت طاحنة في دروب المحنة السورية.
من استهدف ويستهدف مخيم اليرموك، استهدف ويستهدف سوريا، والوطنية الفلسطينية، ويستهدف في الوقت نفسه البعد العربي والإسلامي الحقيقي والفعلي لقضية فلسطين. ولمن احتل مخيم اليرموك، نقول له أترك مخيم اليرموك وأهله، فإن أجزل وأثمن خدمة وهدية تقدم للعدو الصهيوني تكمن في التطاحن والصراع على جسد الشعب الفلسطيني وفي تدمير عنوان العودة بتدمير مخيم اليرموك.
استشهدت الحاجة المسنة ذهبية فهد أبو راشد، ولم تتح لها فرصة مشاهدة اندحار من تسببوا في تدمير بيتها والمخيم، نعم خرجوا جميعا مدحورين من المخيم وعاد له الأمن والاطمئنان كما كان ملاذا آمنا وباحة حرية وتنفس للجميع، ففي مخيم اليرموك يستوي الجميع بالأمن والاستقرار، والمعيار هو، ذاته لنا كفلسطينيين، بوصلة وبندقية تتجه نحو فلسطين، هي بوصلتنا التي يجب أن لا تضل طريقها وأن لا تعيد تكرار مآسٍ سبق وأن دُفِعَ الفلسطينيون دفعا نحوها في الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها على سبيل المثال.
إن يد الفلسطينيين وخيارهم الوطني والأخلاقي مع سوريا والشعب السوري قولا واحدا، لكن الخيار إياه لا يترجم إلا بحياد (إيجابي) يفتح الطريق لوقف نزيف الدم والدمار الداخلي في بلد يستعد الفلسطينيون دوما للموت من أجله كما يموتون تضحية من أجل فلسطين في أي مواجهة خارجية مع عدو خارجي يستهدف سوريا وشعبها.
على السلطة الوطنية الفلسطينية وكل فصائل العمل الوطني والأصدقاء وأنصار فلسطين وأبنائها في دياسبورا المنافي والشتات مد اليد من أجل إعادة الحياة لمخيم اليرموك في المرحلة التالية، ومن أجل إعادة إعمار ما دُمر منه وخصوصا في مربعه الأول، ومساعدة المنكوبين من أبنائه الذين كانوا على الدوام في قلب الثورة والمقاومة على امتداد المسيرة الكفاحية الخالدة للشعب الفلسطيني منذ بواكير العمل الوطني.
أبناء اليرموك يقولون: لا نبكي ولا نندب بيتا ومنزلا، ولا خسارة كبيرة قصمت ظهر آلاف العوائل، التي دُمرت منازلها ودورها التي أشادتها في مشوار طويل من العناء والكد والتعب، وذهبت بذكرياتها وبكل حبة عرق سالت على جبينها. الخيمة في داخلهم، تلك التي انتصبت في نكبة 1948، ورحلت معهم إلى كل جهات الأرض. أقسمت أن تبقى معهم، تقيهم في كل موسم ريح السموم وفي الوحدة صقيع الغربة. وهم عاهدوها أن تظل فيهم، تظلل أجسادهم، تقي أرواحهم من حر النيران الملتهبة إلى أن يعودوا، وها هو مفتاح البيت معهم مهما ابتعد عنهم البيت. سيظل الجد يحكي للحفيد عن عكا التي لولا صمودها لما جاورت البحر، عن حيفا التي لا تنام إلا على هديره، ويافا التي ظلت عروسه مهما جف وعطش. لن يكف الابن عن الرحيل من غربة إلى غربة وعن سؤال أبيه يا أبي "لماذا تركت الحصان وحيدا"؟
أبناء اليرموك يقولون أيضا: نحترق ألما على شعب ما زال سيف الظلم والتنكيل والتبشيع والشيطنة يلاحقه، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فقد ظُلم شعبنا مرارا، وكان على الدوام الضلع الضعيف في معادلة معقدة ومنحطة في الوقت نفسه، وشخصيا دفعت مرات ومرات أثمانا باهظة في موقف وطني، ومن أجل راية وطنية وقومية، وراية إنسانية قبل كل شيء.
لسان حال أبناء اليرموك يقول:
مخيم اليرموك هجره أهله وأبناؤه، ولن يهجرهم ولم يهجروه طوعا، بل هُجروا منه قسرا، هو مخيم اليرموك، طال الغياب عنه..! لكن البارود الإرهاب والتكفير كان يلاحق أبناءه لدفعهم للرحيل أو الموت، فقد كان يُراد لمواطنيه أن يرحلوا كي يتم النسيان..! أو الموت كي يهزموا ويقهروا ويموت معهم حلمهم بالعودة لفلسطين..!
لم يدركوا أن مخيمنا هو لحمنا ودمنا وثقافة حلمنا وذاكرة ثورتنا وجامع شتاتنا ونبع هويتنا ومحطة قطارنا إلى حيث ذلك الوطن الجميل .. فلسطين تتجسد في كل زقاق وشارع ومتجر وحارة من مخيم اليرموك، مرسومة خريطتها بدماء وعذابات ودموع أبنائه...
مخيمنا لن يموت وقطارنا قادم ... اعزف يا دم اليرموك لحنا .. للراحلين مع أزيز الرصاص ونسف البيوت.