يعد التخطيط طويل المدى، والاستراتجيات الكبرى إحدى الأدوات التي تبلور توجهات ومخططات الدول على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والبشرية، حيث تعتمد دول العالم المتحضر دائمًا على منظومة من الخطط قصيرة ومتوسطة المدى، وبلورتها في مخطط أشمل طويل المدى يشمل كافة القطاعات والنشاطات التي تسعى الدولة إلى تنميتها بما يواكب النمو السكاني بها، ويستمد هذا المخطط الكبير الذي لا بد أن يتسم بالطموح والواقعية معًا، فالطموح يهتم بوضع أسس لقواعد اقتصادية واجتماعية وبشرية جامعة، تهدف للوصول لتطلعات الأجيال القادمة وتتواكب معها، فيما تعتمد على الواقعية والتعرف الدقيق عن مقدرات الدولة، حتى يتسنى لها رسم ملامح لدولة المستقبل، بشكل يراعي الواقع الحالي، ويحسب بدقة إمكانية تغيراته، كما تهتم الدول بأن تكون تلك المخطات تحتوي على خطوات تراعي الحالات الطارئة التي تنتج عن التغيرات العالمية أو الإقليمية.
وتشكل هذه الخطط ـ إذا أحسن إخراجها مفتاحًا ـ لبناء المستقبل الوطني، وهو بناء لا بد أن تسهم به كافة قطاعات المجتمع ومشتملاته، لذا تحرص الدول التي تسعى إلى التقدم والرقي إلى التعرف على رؤية أبناء الوطن في مختلف تخصصاتهم، ومختلف ربوعه، ومحاولة دمجها في مخطط شامل، كما أن هذه اللقاءات التي تسبق خروج المخطط للنور، تعنى بإدماج العامل الشعبي في تحمل تبعات تلك الرؤية، فالرضا الشعبي هو أهم مقومات نجاح تلك الاستراتيجيات الشاملة، كما تعد فرصة للتعرف أولًا على مقدرات الوطن في كافة مكوناته الجغرافية والديموغرافية، بالإضافة إلى تعريف تلك المكونات بالرؤية العليا للدولة، ما يسهم في تفاعل إيجابي أثناء تنفيذ هذه الاستراتيجية.
وتعد "رؤية عمان 2040" التي يتم إعدادها حالية، مع وصول رؤية 2020 لآخر خطواتها بنهاية الخطة الخمسية التاسعة، إحدى الخطوات الرئيسية التي تسعى من ورائها السلطنة لبناء المستقبل، فمع دخول "رؤية عُمان المستقبلية 2040" هي الآن في مراحلها النهائية، حيث سيتم خلال هذه المرحلة صياغة المؤشرات الرئيسية التي سوف تقيس مدى تطبيق وتنفيذ الرؤية، بحسب ما أعلنت اللجنة الرئيسية لمشروع "رؤية عمان المستقبلية"، خلال استضافتها بمجلس الدولة أمس وأمس الأول، حيث أعلنت اللجنة أنه سيجري نهاية هذا العام إقامة مؤتمر وطني ستطرح فيه مختلف التوجهات والمدخلات التي تم أخذها من خلال زيارة المحافظات، وكذلك الموقع الإلكتروني لرؤية عُمان 2040 والمشاركات والكفاءات البشرية المتخصصة والتي تهدف إلى إيجاد رؤية يتوافق عليها الجميع حسب ما قضت التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ولعل التوافق كان دومًا عنوانًا لكافة مراحل "رؤية عمان المستقبلية 2040"، وذلك يكمن في كونها ليست مجرد استراتيجية طويلة الأمد، لكنها تحول شامل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى أدوات ومعطيات مختلفة عن رؤية 2020، فعصر التنويع المنظور، يختلف بكل تأكيد عن بناء البنية الأساسية بالاعتماد على أموال النفط، خصوصًا وأننا أصبحنا في عالم مليء بالتطورات المتسارعة والتحديات الكبرى، لذا فإخراج تلك الرؤية لا بد أن يراعي الخروج بحلول أن تتوافق مع المتغيرات، وتقرأ التحديات بروية وواقعية، لتحقق وتلبي احتياجات وطموحات الشباب والأجيال القادمة المتعاقبة، فكما أكدت اللجنة فإن هذه الرؤية ستحقق تحولًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا للسلطنة خلال المرحلة القادمة لبناء مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا، خصوصًا وأن لدى السلطنة درجة جاهزية كبيرة، فخلال العقود الأربعة الماضية تم تحقيق الكثير، وأن المرحلة القادمة تتطلب تغيرًا نوعيًّا، سواء في الأدوار التي تقوم بها الحكومة أو مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص.
إن المتابع لمراحل إعداد "رؤية عُمان 2040" يجد أنها تتسم بالمشاركة الإيجابية الواسعة من قبل كافة الأفراد، خصوصًا في مرحلة زيارة المحافظات، حيث تعد رؤية مجتمعية شاملة للقطاعين الحكومي والخاص، وكذلك الأفراد، وأن مشاركة الأفراد هو عامل مساعد في تنفيذ الرؤية، كما أن طموحاتها لن تتأتى إلا بتكاتف العمانيين جميعًا لتحقيق الخير المرجو منها.