هناك من يهون من ظاهرة رجوع المسلمين بعد قضاء رمضان الفضيل إلى المنكرات والمفاسد .. ويؤكد بأنها ظاهرة طبيعية لا تثير القلق ويقول هذا الرجل إن هناك نصوص نبوية تدفع الناس إلى مثل هذا السلوك فالنبي (صلى الله عليه وسلم) وسيقول : إن لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبوا ثم يتوبوا ثم يغفر الله لهم . فهل هذا الحديث وهل هذا الكلام من الصحة بمكان ؟
هذا الحديث ليس فيه تشجيع قط على إتيان المعصية ، وإنما هو دليل على أن الحق سبحانه وتعالى يقبل توبة التائبين ، هو إنما يدل على عدم يأس الإنسان المؤمن من رحمة الله ، فهو دائماً يكون متشبثاً بأذيال فضل الله سبحانه راجياً رحمته مع خشيته من عذابه .
ليس معنى ذلك أن يكون الإنسان مطمئناً لا يخشى عذاب الله ، بل مهما فعل من بر ومهما فعل من إحسان عليه أن يكون خائفاً من الله وبدون الخوف من الله لا يستقيم عمل الإنسان قط ، فالله تبارك وتعالى يقول ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (الأعلى:10) ، ويقول سبحانه عز وجل ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(قّ: من الآية45) ، ويقول تبارك وتعالى (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ( يس: 6-11) ، فإذن خشية الله تبارك وتعالى لا بد منها ، كما أن الرجاء أيضاً لا بد منه ، لا بد للإنسان من أن يوازن بين الخوف والرجاء ، وليس معنى هذا أن يسترسل في المعصية فإن الإنسان يخشى الله تبارك وتعالى وهو يؤدي طاعة الله ويحرص على تجنب معصية الله كيف والله تبارك وتعالى يقول ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) أولئك يفعلون ما يفعلون من الخير ، ويدفعون ما يدفعون من الفضل ، ويقدمون ما يقدمون من الأعمال الصالحة ولكن مع ذلك قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ، ولذلك عندما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المؤمن أيخشى الله عندما يأتي المعصية ؟ أجابها بأنه يخشى الله وهو يأتي الطاعة بدليل هذه الآية ، أسمعها هذه الآية الكريمة ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:6 ).
هذا ولا ريب أن صيام شهر رمضان إنما شرع من أجل التقوى كما ذكرنا فالله تبارك وتعالى يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) أي للتتقوا .
فالغاية من الصيام إنما هي تقوى الله ، كما أنها الغاية من أي عبادة من العبادات .
هذه الغاية لا تتحقق للإنسان إلا عندما يؤدي الصيام على النحو الشرعي ، ذلك لأن الصيام الشرعي إنما يعوّد الإنسان الانضباط في حركاته وسكناته وأعماله وخواطر نفسه وجميع تصرفاته وجميع حركات جسمه ، يعوّد الإنسان الانضباط حتى تكون هذه الحركات كلها مقيدة بقيود التقوى بقيود أمر الله سبحانه ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم يقول كما جاء في مسند الإمام الربيع من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقول عليه أفضل الصلاة والسلام : ( ولا صوم إلا بالكف عن محارم الله ( .
وكذلك جاء في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . ومعنى هذا أن هذا الكلام خرج مخرج التهديد لأولئك الذين ليس لهم نصيب من صيامهم ألا أن يدعوا الطعام والشراب وهم مع ذلك يقعون في معاصي الله غير متحرجين وغير مبالين .

فالإنسان إذاً يتعود في الشهر المبارك الانضباط بحسب أوامر الله فهو يحرص على المسارعة إلى طاعة الله وإلى توقي معصيته سبحانه وتعالى بحيث يتجنب الوقوع في أي معصية من المعاصي ، وعندما ينتهي الشهر الكريم عندما يفرّط في هذه المكاسب بحيث يرتمي في حضن الشيطان الرجيم مسترسلاً في معصية الحق سبحانه ، متابعاً لهوى نفسه ، معرضاً عن التذكير الذي جاء في كتاب الله وجاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكون هذا شخصاً خاسرا ، وأي خسران أعظم من هذا الخسران كيف حرص على الصيام الشرعي في شهر رمضان ومع ذلك لم يحرز مكاسب هذا الصيام حتى يكون في جميع وقته في جميع عامه متقيداً بقيود الحق منضبطاً بضوابط الشرع .
لا ريب أن الإنسان تقع منه الهفوات وتقع منه الزلات ولكن من هو المؤمن ؟ من هو التقي ؟ نحن نجد أن الله سبحانه وتعالى وعد الجنة المتقين ولم يعدها الفجار الله تبارك وتعالى يقول (وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ ) ( النحل : 30-31) هي دار المتقين .
ويقول ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133( ، هؤلاء المتقون من هم ؟ المتقون وصفوا بصفات ، هذه الصفات تجدها في كتاب الله ، فالله سبحانه وتعالى يبين أن التقوى قبل كل شيء عقيدة في النفس تسيطر على هذه النفس وتهيمن عليها ، وتتغلغل في أعماق مشاعرها ، ثم بجانب ذلك إنعكاس لهذه العقيدة في تصرفات الإنسان وأعماله حتى تكون هذه التصرفات والأعمال متجاوبة مع هذه العقيدة فنحن نرى أن الله تبارك وتعالى يقول ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ( البقرة :2-4) ، ويقول سبحانه عندما ذكر البر ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) أي الذين جمعوا بين هذه الصفات جميعاً هم الذين صدقوا وهم المتقون .
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) ( آل عمران: 15-17) ، ثم نجد أن الله تعالى أيضاً يقول (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران :133-135) ، فهم وإن وقعوا في معصية يتراجعون ويتوبون إلى الله ويندمون على تلك المعصية .
كذلك يقول الله تبارك وتعالى ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201) ، فهؤلاء سرعان ما يدّكرون ويعودون إلى الله وينقلبون عن المعصية إلى الطاعة تاركين لتلك الهفوات التي وقعوا فيها .

فشأن المتقي أن يكون حريصاً على أن يتراجع لا يسترسل في هواه ، لو وقع في معصية هو سرعان ما يتوب إلى الله ، لا يستلذ تلك المعصية ويستمرئها ويستمر عليها إنما يتراجع عنها ويرى أن سعادته في تركها ، أما الذي يستمرئ المعصية ولا يبالي بها فذلك هو المصر على معصية الله سبحانه وتعالى .
هؤلاء المصرون هم أبعد ما يكونون عن رحاب المتقين ، فوقوع المعصية من شأن الإنسان ، وليس ذلك بغريب على الإنسان ، لأن الإنسان جُبل على النسيان وجُبل على الضعف ، هو ضعيف ، وتيارات كثيرة تؤثر عليه ولكن الله من فضله فتح له باب التوبة ، وهذه التوبة إنما تكون بتراجع هذا الإنسان وندمه على ما فرط ، ولا يعني ذلك أن يستمرئ تلك المعصية ويستمر عليها فإن هذا مما يتنافى كل التنافي مع ما يتصف به المتقون ، بل ذلك مما يتنافى مع الإيمان الذي هو ركيزة التقوى وهو ركيزة النجاة فإن الله تبارك وتعالى قال في المؤمنين ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2) ، فهؤلاء هم المؤمنون الذين توجل قلوبهم من هيبة الله سبحانه وتعالى ومن خشيته فلا يمكن أن يستمروا على معصية الله .